Monday, February 23, 2015

حجية الإجماع


السلام عليكم و رحمة الله و بركاته… كثيرا ما أكتب أشياء فيأتيني طالب علم أو إنسان من عوام المسلمين فيقول أنت تخالف اجماع المسلمين. و عندما أطرح بعض الأفكار التي تخالف المألوف أو السائد عند الناس، إما أن يقولوا: “أنت تخالف الإجماع” و إما أن يقولوا: “قولك يشبه قول أصحاب الأهواء و البدع” و إما أن يقولوا: “قولك لم يُسبق إليه وليس عندك سلف من إمام و بهذا كلامك مردود وغير مقبول”. و هذا الذي أعاني منه، يعاني منه كثير من المسلمين اليوم، ما إن يجتهدوا و يحاولوا إخراج معنى جديد أو ملاحظة جديدة في مسألة شرعية معينة قالوا له: “أجمع المسلمون” “أجمع العلماء” “أجمع الصحابة” “أجمع الأئمة”…الخ و قد بحثت مسألة حجية السنة و تعريف السنة من قبل في المدونة و اكتشفت بأن المسألة أعمق مما يتصوره طلاب العلم اليوم، و قد كتب فيه العلماء المتقدمين الكثير. وفي هذه المشاركة أحاول أن أبحث في حقيقة “حجية الإجماع” و ليس ثبوت الإجماع ولكن حجية الإجماع كأصل تشريعي من أصول الدين و خاصة أنه عندي ملاحظات لم أجد أحد ذكرها في معرض مناقشته لمسألة حجية الإجماع.

أما حجية الإجماع فأكثر العلماء على أن الإجماع مصدر من مصادر التشريع، و لكن بعض المعتزلة أنكروا حجية الإجماع مثل إبراهيم النظّام و أبو عمر القاشاني و كذلك أنكر بعض المتقدمين من الشيعة و الروافض و الخوارج حجية الإجماع. ولكن أغلب الخوارج على أنهم يعتبرون حجية إجماع الصحابة قبل زمن الفتنة والله أعلم. و للأسف بعض العلماء و كأنه يربط الحق بالرجال، فعندما يذكرون بأن النظّام أنكر حجية الإجماع ذكروا من تهمته بالزندقة و أنه من المبتدعة و المعتزلة أو غير ذلك، و هذا عند الباحث الحقيقي لا شيء لأن الحق لا يعرف بالرجال و الباحث عن الحق يهمه الدليل ولا يهمه من القائل. أما المعاصرون فكثيرون هم الذين ينكرون حجية الإجماع، ليس فقط خارج أهل السنة، بل حتى بعض الباحثين ينكرون حجية الإجماع.

أولا أحب أن أقول لكي يصبح الإجماع مصدرا من مصادر الشريعة و أصلا من أصوله فلابد على ثبوت الإجماع كمصدر شرعي قطعي مستقل لا يجوز انكاره دليل قطعي الثبوت و قطعي الدلالة. معنى ذلك لا يصح أن تأتي بدليل قطعي ثبوت ظني الدلالة لتُثبت حجية الإجماع و لا يصح أن تأتي بدليل ظني الثبوت قطعي الدلالة لتُثبت حجية الإجماع. و كذلك لا يصح أن تُثبت حجية الإجماع بدعوى الإجماع مثل قولك: “أجمع المسلمون على حجية الإجماع” لأن اثبات للشيء بنفسه لا يصح و سيؤدي إلى الدور. لابد أن يكون الإثبات من خارج هذا الشيء الذي تريد أن تثبته، و هذه مقدمة منطقية لا يخالفها أي عاقل يدري ما يخرج من رأسه. فلم يبقى عند الطرف الآخر إلا أن يستدل بدليل قطعي الثبوت و قطعي الدلالة، و هذا يعني أن مُستند أدلة الطرف الآخر إما أن يكون من القرآن أو السنة أو العقل. 

أما الكتاب العزيز، فاستدل العلماء بآيات لإثبات حجية الإجماع كمصدر للتشريع، الدليل الأشهر عند القوم و الأقوى ما استدل به الإمام الشافعي: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)) و كذلك استدلوا بقول الله سبحانه و تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)) و قوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) و استدلوا أيضا بقوله: (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) و استدلوا أيضا بقول الله سبحانه: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)) و قوله: ((وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)) و قوله: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) وغيرها من الآيات. 

قبل الخوض في دراسة الآيات أهي آيات قطعية الدلالة أم لا (ولا أراني بحاجة إلى فعل ذلك) لابد من بعض الأسئلة. من يدخل في الأمة؟ هل فقط يدخل فيه أهل السنة و الجماعة أم يدخل فيه أهل السنة و الجماعة و الشيعة و الخوارج و الإباضية و الزيدية و المعتزلة و الأشاعرة و الروافض و غيرهم؟ و هل يدخل فيه اليهود و النصارى و غيرهم من الإنس و الجن أم لا؟ قالوا إن الأمة منقسمة قسمين، أمة التبليغ و يدخل فيهم اليهود و النصارى و غيرهم من غير المسلمين. و أما القسم الثاني فأمة الإستجابة و يدخل فيه كل من آمن بالله وملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر. سؤال آخر، أمة الإستجابة يدخل فيها أهل السنة و الجماعة و الشيعة و الزيدية و الإباضية و الخوارج و غيرها من فرق المسلمين أم لا؟ هنا عليهم أن يثبتوا جميع الآيات التي فيها ذكر الأمة أنها مخصوصة بأهل السنة و الجماعة ولا سبيل إلى ذلك بدليل قطعي. حتى إن سلمنا بحجية الإجماع أقول لهم بما أن أمة الإستجابة لم يجمعوا على حجية الإجماع فيما أعلم إذا حجية الإجماع كمصدر تشريعي غير ثابت و هذا أنهم أجمعوا على وجود الخلاف في المسألة فلا يصح خلاف الإجماع على حسب منطقهم، و إن تأملت في كلامي جيدا ستدرك بأننا انتهينا من المسألة و الحمدلله. 

و لكن تنزّلا معهم دعني أقول بأن حجية الإجماع ثابتة على حسب كلامكم، ما الشيء الذي أجمع عليه أمة الإسلام أو أمة الإستجابة وليس مذكور في القرآن كدليل قطعي الدلالة! لا علم مسألة من المسائل التي أجمع عليها الأمة الإسلامية و ليس في القرآن أصله بدلالة قطعية؟ لا يوجد فيما أعلم، فإن كان عندكم مسألة آتوني بها. فإن كان ما كتبته حقا و هو حق إن شاء الله إذا معنى ذلك أن الإجماع لا يعتبر مصدرا تشريعيا مستقلا و هذا يعني لا معنى قول الطرف الآخر: “أجمع المسلمون” كان يكفيه أن يقول: “قال الله سبحانه و تعالى في كتابه كذا و كذا” و انتهينا. و أيضا قول الله سبحانه و تعالى: ((غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)) من هم المؤمنين في الآية؟ هل هم المسلمون و المؤمنين من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله و اعترفوا برسوله ولكنهم بقوا على شرائعهم، أم فقط المسلمون؟ فإن كان الآخر، فمن يدخل في الأمة الإسلامية، أيدخل فيه فقط أهل السنة و الجماعة (أو أهل الحديث أو السلفية) أم يدخل فيه أهل السنة و الجماعة و الفرق المتفرقة منها كأهل الحديث و الأشاعرة و المعتزلة و الماتريدية و الشيعة و ما يتفرع منها و الخوارج و الإباضية و الزيدية و غيرهم؟ فإن كان فقط أهل السنة و الجماعة فما الدليل القطعي على ذلك؟ و إن كان فقط الصحابة فما الدليل القطعي على ذلك؟ و كذلك أقول في قول الله سبحانه و تعالى: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) و قوله: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)) و قوله: ((وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)) و قوله: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) من الذين يخاطبهم الله في هذه الآيات؟

فإن عرفت هذا عرفت بأن جميع ما يستدلون به من آيات القرآن الكريم لا تصلح لتكون دليلا قطعيا على ما يذهب إليه بعض العلماء. ثم من قال بأن هذه الآيات التي استدلوا بها هي آيات اعترف بها جميع علماء أهل السنة و الجماعة بأنها آيات فيها دلالة قطعية على حجية الإجماع؟ غير صحيح فعلماء أهل السنة اختلفوا في ذلك، وبما أن العلماء اختلفوا فكيف يدعون بأن القرآن الكريم أثبت حجية الإجماع بدلالة قطعية؟ ذكر الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه “المستصفى من علم الأصول” نفس الآيات التي ذكرتها و التي يعتمد عليها البعض كدليل قاطع على حجية الإجماع، لم يوافق على الاستدلال بها و قال: "فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل أيضاً دلالة الظواهر”. و من المعاصرين قال الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه: “أصول الفقه الإسلامي” بعد أن عرض الآيات التي يستدل بها البعض في إثبات حجية الإجماع: “هذه الآيات فيها احتمالات تخرجها عن أن تكون نصا في اتفاق المجتهدين على الأحكام، و مع الاحتمال لا يتم الاستدلال”.

لنأخذ أشهر آية يستدلون بها على حجية الإجماع و أقواها كما ذكر أبو حامد الغزالي و هي: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)). قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: " (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ) يقول: ويتبع طريقاً غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجاً غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم." قال الجويني رحمه الله: “وهذا عندنا ليس على رتبة الظاهر فضلاً عن ادعاء منصب النص فيها.” و في كتابه “البرهان في أصول الفقه” : “أوجه سؤالا واحدا يسقط الاستدلال بالآية فأقول إن الرب تعالى أراد بذلك من أراد الكفر وتكذيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والحيد عن سنن الحق وترتيب المعنى ومن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين المقتدين به نوله ما تولى فإن سلم ظهور ذلك فذلك وإلا فهو وجه في التأويل لائح ومسلك في الإمكان واضح فلا يبقى للمتمسك بالآية إلا ظاهر معرض للتأويل ولا يسوغ التمسك بالمحتملات في مطالب القطع وليس على المعترض إلا أن يظهر وجها في الإمكان ولا يقوم للمحصل عن هذا جواب إن أنصف”. قال أبو حامد الغزالي: “فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنين وهذا ما تمسك به الشافعي وقد أطنبنا في كتاب تهذيب الأصول في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها والذي نراه أن الآية ليست نصا في الغرض بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل ولو فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم الآية بذلك لقبل ولم يجعل ذلك رفعا للنص كما لو فسر المشاقة بالموافقة واتباع سبيل المؤمنين بالعدول عن سبيلهم”.

قال الفخر الرازي رحمه الله: “قوله: ((وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ)) يعني غير دين الموحدين” و في كتابه: “المحصول في علم أصول الفقه” في معرض مناقشته الآية: “عندنا أن هذه المسألة ظنية”. قال الآلوسي رحمه الله: “وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى”. قال الشوكاني رحمه الله: "ولا حجة في ذلك عندي؛ لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو: هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره" وقال الشنقيطي صاحب تفسير أضواء البيان: "وفي الاستدلال عليه بهذه الآية بحوث ومناقشات" أي على الاجماع. و في تفسير الجلالين: “ (ومن يُشاقق) يخالف (الرسول) فيما جاء به من الحق (من بعد ما تبين له الهدى) ظهر له الحق بالمعجزات (ويتَّبع) طريقا (غير سبيل المؤمنين) أي طريقهم الذي هم عليه من الدين بأن يكفر (نولِّه ما تولَّى) نجعله واليا لما تولاه من الضلال بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا (ونصله) ندخله في الآخرة (جهنم) فيحترق فيها (وساءت مصيرا) مرجعا هي.” و أما بقية الآيات فهي أضعف دلالة على حجية الإجماع و هناك رد لكل من استدل بها في اثبات حجية الإجماع و لكن ذلك يطول. 

ثم إن قصة استدلال الشافعي بهذه الآية فيها ما فيها. وإليكم الحكاية كما في كتاب أحكام القرآن للشافعي: "كنا يوماً عند الشافعي إذ جاء شيخ فقال: اسْأَلُ؟ قال الشافعي: سَلْ. قال: إيش الحجة في دين الله؟ فقال الشافعي: كتاب الله. قال: وماذا؟ قال: سنة رسول الله . قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: ومن أين قلتَ اتفاق الأمة، من كتاب الله؟ فتدبر الشافعي ساعةً. فقال الشيخ: أَجَّلْتُكَ ثلاثة أيام. فتغيَّرَ وجهُ الشافعي، ثم إنه ذهب فلم يخرج أياماً. قال: فخرج من البيت في اليوم الثالث، فلم يكن بأسرع أن جاء الشيخ فسلَّم فجلس فقال: حاجتي؟ فقال الشافعي : نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله : ((وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً)) ، لا يصليه جهنم على خلاف سبيل المؤمنين إلا وهو فرض. قال: فقال: صدقتَ. وقام وذهب. قال الشافعي: قرأتُ القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه” قال ابن السبكي رحمه الله في “طبقات الشافعية” في اثبات هذه الحكاية: “وسند هذه الحكاية صحيح لا غبار عليه” فإن صحّت هذه الحكاية فعندي ملاحظات أحب أن أعرضها عليكم. 

الملاحظة الأولى، أن في زمن الشافعي هناك شيخ لم يكن يعرف الدليل على حجية الإجماع، وإن كان حجية الإجماع ثابت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة فالمتوقع أنه يكون معروفا عند العامة. و أما إن كان هذا الشيخ من طلبة العلم أو العلماء فغريب جدا أن لا يعرف حجية الإجماع! أو على الأقل لم يعرف حجية الإجماع من القرآن و هذا بحد ذاته غريب وخاصة كما درج على لسان بعض أهل العلم عندنا: “عوام السلف يساوون طلاب العلم اليوم!”. الملاحظة الثانية أن هذا الشيخ كان يعرف لإثبات مصدر تشريعي لابد من دليل من القرآن الكريم و إلا ما سبب قوله: “ومن أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله؟”. الملاحظة الثالثة، لنعتبر هذا الشيخ عامي جاهل بأبسط الأمور، فما بال الشافعي و هو إمام في العلم احتاج أن يقرأ القرآن في كل يوم و ليلة ثلاث مرات حتى يقف على الدليل! بل احتاج في كل يون و ليلة أن يقرأ ثلاث مرات! تخيلوا كل هذه المشقة و الصعوبة لاستخراج دليل! فإن كان كما يقولون بأن حجية الإجماع دلالة قطعية ظاهرة فما بال إمام من أئمة المذاهب الأربعة وجد هذه المشقة! الملاحظة الرابعة، أن الشافعي لم يسمع من أحد من العلماء و المحدثين و الفقهاء من يستدل على الإجماع بآية من كتاب الله، و إلا لما كان ليغفل عن الإجابة مباشرة فيقول كما نفعل اليوم: “استدل فلان كذا و استدل الآخر بكذا”، لنفترض لعارض ما لم يستطع أن يتذكر، فهل يعقل أنه لم يتذكر قول أي عالم من العلماء استدل بكتاب الله على الإجماع خلال قراءته ثلاث مرات في اليوم و الليلة؟ فهذا يدل أنه الشامعي لم يسمع من أحدا من العلماء استدل على الإجماع من القرآن و إما أن يدل أن الشافعي به غفلة عظيمة و أحلاهما مر عندكم، و قد يدل على أشياء أخرى!

أما استدلالهم بالسنة النبوية، فأولا يجب أن نحدد معنى السنة. فهل السنة كل ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أم أنه فقط التواتر العملي أم أن السنة كما عرفتها أنا في مشاركة سابقة في المدونة؟ يروى عن البعض أنهم أنكروا حجية السنة كمصدر تشريع و الظاهر أنهم يقصدون المرويات المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم لا نفس حجية السنة. بحيث إن كان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم يرد أمره، فهذا لا أعلم مسلما من المتقدمين من قال بذلك. ولكن بعض الطوائف أنكروا الأخذ بالأخبار كمصدر للتشريع و ذلك لعدم ثبوتها و لهذا نجد في كتاب “الأم” للشافعي فصلا عنوانه: “باب حكاية أقوال الطائفة التي ردت الأخبار كلها”. و الشيعة فيما أعلمه يردون كثيرا من الأحاديث بسبب أن يرويها بعض الصحابة الذين لا يعتبرون مرضيين عندهم، و بعض الناس رد جميع الأخبار ما لم يثبت بالتواتر، و هناك من قبل الآحاد و لكنهم اختلفوا في شروط قبول الأخبار و هذا موضوع كبير جدا و عميق و يترتب عليه أحكام كثيرة. من أقرّ الخلاف و اعتبره فالأخبار في السنة لا تكون دليلا على حجية الإجماع عند من رد الأخبار، و كذلك لا يكون دليلا إن كانت الأخبار لم تصل إلى درجة التواتر عند من رد الآحاد و هكذا. 

لنفترض بأننا من الذين يقبلون الأخبار و إن كانت آحادا، فكيف يمكننا إثبات حجية الإجماع؟ كما ذكرت في البداية، لإثبات حجية الإجماع نحن بحاجة إلى دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، و في أخبار الآحاد فالدليل ظني الثبوت، إذا لا يصح أن تثبت حجية الإجماع بها. أما من ادّعى أن الأخبار تواترت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا تجتمع على ضلالة تواترا معنويا فعليه أن يثبت ذلك، لأن بحسب ما بين أيدينا من مرويات فلا يصح ادعاء ذلك! بل إن كثير من المرويات في هذا المعنى ضعيفة. و من أكثر الأحاديث التي يستدل بها علماء الأصول: “لا تجتمع أمتي على ضلالة” و هذا الحديث ضعفه جمهور أهل الحديث و هذا معروف بينهم و رواية: “لا تجتمع أمتي على خطإ” قال عنها الحافظ العراقي: “فيه نظر” و رواية: “إنَّ أمتي لا تجتمعُ على ضلالةٍ فإذا رأيتُم الاختلافَ فعليكم بالسوادِ الأعظمِ يعني الحقَّ وأهلَه” ضعفه علماء الحديث. و رواية أبو ذر: “اثنانِ خيرٌ من واحدٍ وثلاثةٌ خيرٌ من اثنينِ وأربعةٌ خيرٌ من ثلاثةٍ فعليكم بالجماعةِ فإن اللهَ عزَّ وجلَّ لم يكنْ ليجمعَ أمتي إلا على هدًى” أيضا ضعيفة كما قال الهيثمي المحدث كما في مجمع الزوائد. و حديث: “ اتَّبعوا السَّوادَ الأعظمَ فإنَّهُ من شذَّ شذَّ في النَّارِ” قال ابن حجر: “روي من وجوه لا يخلو شيء منها من مقال. و لعل أقوى حديث عندهم في هذا الباب حديث: “لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهرينَ علَى الحقِّ ، لا يضرُّهم مَن خذلَهُم ، حتَّى يأتيَ أمرُ اللَّه” و هذا الحديث يصححونه و لكن برأيي الشخصي بحاجة إلى تحقيق و دراسة متعمقة.

إن اعتبرنا حديث “لا تزال طائفة من أمتي” فإنه لا يكفي لاثبات التواتر المعنوي، بل حتى لو افترضنا بعض الأحاديث التي ذكرتها صحيحة فإنها لا تكفي لاثبات التواتر المعنوي. ولكن لا بأس سأجاريهم و أقول بأن الحديث متواتر تواترا معنويا. فهل هذا يكفي على حجية الأجماع؟ لا! و ذلك لأن مدلولات هذه المرويات له معان مختلفة و محتملة فحتى إن قلت بأن الأخبار متواترة ينبغي أن تكون كل رواية فيها دليل قطعي على حجية الإجماع. ثم إن هذه المرويات ينطبق عليها ما قلت عند مناقشتي لاستدلالهم بالقرآن الكريم. من الذين قصدهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، أهل السنة و الجماعة فقط أم يدخل فيه المسلمون من الشيعة و الخوارج و غيرهم من فرق المسلمين! فإن خصصوا فقط بأن المقصود أهل السنة و الجماعة فعليهم اثبات ذلك بدليل قطعي غير محتمل… هيهات هيهات… و بهذا انتهيت على عجل من استدلالهم بالسنة على حجية الإجماع.

لم يبقى عندهم إلا الدليل العقلي القطعي، و ذلك لأن الدليل العقلي الظني لا يفي بالمطلوب. أما حجية الدليل العقلي استقلالا فلعله فيه خلاف بين الناس و لكن لا حاجة إلى التفاصيل لأنه بشكل عام المسلمين و غير المسلمين يعتبرون حجية دليل العقل. لنعتبر أن الدليل العقلي القطعي له استقلالية اختصارا للموضوع، فأما الدليل الأول الذي يعولون عليه: “اتفاق العلماء من المتقدمين على مسألة لا يكون إلا لدلالة أو أمارة” و هذا الدليل لا يعتبر من الأدلة العقلية القطعية إنما الظنية و ذلك لأن العلماء قد يتفقون على المسألة ليس بسبب دلالة أو أمارة بل لشبهة، و هذا يحصل في العالم و نراه و نعرفه من أقوام كاليهود و النصارى. 

الدليل العقلي الثاني قولهم: “لا يمكن للحق أن يضيع في زمن من الأزمان” أولا أقول ما الحق الذي تقصدونه، الحق الذي بدونه يضيع الدين؟ أو يفسد بضياعه العالم أو الدين فسادا عظيما؟ أو يضيع ركن أو أساس من أساسيات الدين؟ أم تعممونه في كل شيء حتى في المسائل الفرعية أو الدنيوية و ما شابه ذلك؟ فإن كان الأول، فلسنا بحاجة إلى الإجماع لما قررته في مناقشتي أدلتهم بالكتاب لأن لقائل أن يقول مستند هذا القول القرآن الكريم و كونه الحق الذي لا يضيع في زمن من الأزمان. و أما إن كان الأخير فما الدليل على قولكم، فإن مثل هذا القول بحاجة إلى وحي من الله سبحانه و تعالى. و أين تجد في القرآن الكريم بأن الله توعد بأن يحفظ الحق في هذه المسائل الفرعية؟ و أين تجد ذلك من السنة النبوية المتواترة؟ لا بأس، دعني أفترض و أقول بأن الحق حتى في المسائل الفرعية محفوظ، لكن ما الدليل على أنه لابد أن يجتمع عليه المسلمون؟ بل ما الدليل أن يحصل على هذا الحق مسلم؟ فما الذي يمنع إن حصل على هذا الحق في المسألة الفرعية إنسان غير مسلم؟ و إن افترضنا إن الله سيحفظ هذا القول بين المسلمين فما الدليل أن هذا القول سينتشر؟ ألستم توردون الخلاف في قول الله سبحانه و تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ)) و تدعمون قول من يقول بأن بعض آيات القرآن لا يعلم تفسيرها إلا الله بروايات عن صحابي أو تابعي؟ و قد تقول بأن الله يحفظ الحق الذي ينفع الناس أما الذي لا يحتاجون إليه فلم يتكفل بحفظه، و كل هذه أقوال لا تصلح أن تكون حجة عقلية قطعية. كل هذه الأمور بحاجة إلى أدلة قطعية ولا يصح معها الإحتمالات و الظنون. 

و من الأدلة التي يستدل بها البعض: “إن الله يضمن حفظ أقوال العلماء التي هي حق” و هذا أيضا تحكم و أخشى أن يكون تقوّلا على الله سبحانه و تعالى بلا علم. و متى قال الله سبحانه و تعالى في كتابه شيء من ذلك؟ كل الآيات التي تستدلون بها آيات ظنية الدلالة فكيف تدّعون مثل هذا؟ فإن قلتم بأن الله يضمن ذلك لأن الله لن يجعل الحق في زمن من الأزمان أن يكون ضائعا و مخفيا عن الناس، أقول رجعنا إلى الدليل السابق. القرآن محفوظ إلى ما شاء الله و هو ينطق بالحق فليس عندكم دليل قاطع من القرآن بأن الله ضمن أن يحفظ شيئا غير القرآن، بل حتى دعوى الحفاظ على الأحاديث مختلف فيها كما هو معلوم عند أهل العلم. و بعد هذا الذي ذكرت فإن الأدلة العقلية التي استدلوا بها و اعتبروها أدلة عقلية قطعية لا تعتبر قطعية فإن دلّت هذه الأدلة على شيء فإنها تدل على حفظ الحق و ليس فيها دلالة قطعية على حجية الإجماع و هذا ظاهر و الحمدلله. 

و بهذا انتهيت من عرض أهم الأدلة التي يستدلون بها على حجية الإجماع من القرآن و السنة و العقل و يترجح عندي والله أعلم بأن ليس عندهم فيما أعلم دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة على حجية الإجماع. و لم أتعرّض للأدلة التي ممكن أن أستدل بها ضد الإجماع سواء بآيات قرآنية أو أحاديث منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم فإنها كثيرة و النقاش حولها سيطول جدا ولا أرى بأني بحاجة إلى فعل ذلك و قد حصل الغرض من المشاركة إن شاء الله. و لكن يكفي أن أقول بأنه ليس في القرآن آية يقول الله فيها بأن الإجماع مصدر من مصادر التشريع وينبغي التحاكم إليه واتباعه عند الإختلاف. أحب أن أقتبس كلاما للفخر الرازي من كتابه الرائع: “المحصول في علم أصول الفقه” و هو يستنكر صنيع بعض الفقهاء، قال الرازي: “والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات و الأخبار، و أجمعوا على أن المنكر لما تدلُّ عليه هذه العمومات لا يكّفر ولا يفسّق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، و مخالفه كافر أو فاسق؛ فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل، و ذلك غفلة عظيمة”.

أخيرا أحب أن أقول بأني بهذه المشاركة لا أقول بأنه ليس للإجماع (إن ثبت) في مسألة فرعية ليس لها وزن، ليس هذا ما أقصده! له وزن و لكن لا يكون حجة قاطعة يمنع الإجتهاد على الطرف الآخر إنما فيه نوع اطمئنان و استئناس و ما شابه ذلك. و بعد مسألة حجية الإجماع لابد من مناقشتهم حول وقوع الإجماع هل هو ممكن أو غير ممكن و تصور الإطلاع على الإجماع، و متى يعتبر الإجماع إجماعا و متى يكون حجة لمن نُقل إليه الإجماع. و أركان الإجماع، و من يدخل في المجمعون و ما موانع ثبوت الإجماع و ما الخلاف المعتبر. و من ثم مسألة إجماع الصحابة و هل هو معتبر أو غير معتبر، و إجماع أهل عصر من العصور و ما يترتب على هذا الإجماع و الإجماع بعد الخلاف و الإجماع السكوتي و الفرق بين الأجماع و الاتفاق وهل يكون مستند الإجماع الاجتهاد وغيرها الكثير من المسائل المتعلقة بالإجماع و لا يكاد يخلو مسألة من اختلاف بين المسلمين هذا والله أعلم. و ما كان من صواب فمن الله و ما كان من خطأ فمن نفسي. والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته. 

No comments:

Post a Comment