Tuesday, December 16, 2014

على ساحل القرآن - الحمدلله رب العالمين - الجزء الثالث




السلام عليكم ورحمة الله و بركاته... هذه هي المشاركة الثالثة ومحاولة جديدة لاستخراج بعض الحكم و الفوائد من قول الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله رب العالمين)) و في هذه المشاركة سأركز نوعا ما على قوله (رب العالمين). فأبدأ مستعينا بالله بتعريف اسم الرب, قال ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث و الأثر: "الرب يطلق في اللغة على المالك والسيد والمدبِّر والمربّي، والقيِّم والمنعم, ولا يطلق غير مضاف إلى على الله تعالى, و إذا أطلق على غيره أضيف, فيقال: رب كذا". وعن نفسي أرى بأن اسم الرب من أخصّ أسماء الله سبحانه و تعالى, وأراه يقابل الاسم المترجم باللغة الإنجليزية و ما هو معروف عند جميع شعوب العالم بـ God. وذلك لأن الرب أو كما يترجمون اسمه إلى God يدل على أسماء الله. فالرب هو الحي القيوم و هو المالك و السيد و المدبّر و المربّي و القيّم و المنعم,  ولهذا إن سألك أحدهم من هو الله فلعله أفضل إجابة على سؤاله أن تقول: "رب العالمين * الرحمن الرحيم". وبما أن الله رب العالمين و رب السماوات و الأرض و رب كل شيء و خالقه فالمخلوقات كلها من بداية خلقها وحياتها إلى فنائها كلها نتيجة آثار هذا الاسم. فالرب هو رب العالمين الذي خلق كل شيء فأخرج الخلق من العدم إلى الحياة, و بما أنّ من معاني الرب فإنه المدبّر و المربّي و القيّم على خلقه فترة حياتهم و هو كذلك سيدهم و مالكهم بعد مماتهم سواء الجن و الإنس و غير ذلك, يحدد مصير مخلوقاته بحكم كونه المالك و السيّد. مثلا اسم الرحيم قد لا يجد ابليس و هو في النار شيئا من آثار هذا الاسم ولكنه يجد آثار اسم الرب ولا فكاك عنه كما أنه لا ينفك عن آثار اسم الله و الرحمن. و بما أن الله رحمته وعلمه وسعتا كل شيء فكذلك الربوبية وسعت كل شيء.

وهناك ملاحظة أخرى و هي أن اسم الرب غالبا مربوط بأفعال الله سبحانه وتعالى (إن جاز التعبير) أو ما يدل على أفعاله المتعلقة بمخلوقاته, بخلاف اسم الله أو الرحمن فإنهما يدلان على الأسماء و الصفات و الأفعال وإن لم تتعلق أحيانا بشكل واضح بالخلق. فعلى سبيل المثال الآية: ((رب اغفر لي و لوالدي)) و قوله: ((قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن...)) الآية, و في موضع آخر ((قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم)) و لذلك دعا الأنبياء و الصالحون الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم. وهنا دقيقة ربما بحاجة إلى بعض التفصيل, قال الله سبحانه و تعالى: ((الحمدلله رب العالمين * الرحمن الرحيم)) فإن قرأت ما كتبته في مشاركاتي الأربعة عن البسملة وعن اسم الرحمن الرحيم ستدرك ما فائدة تقديم "رب العالمين" على "الرحمن الرحيم".  وذلك لأن الباحث عن الله (إن جاز التعبير) أو الباحث عن الحق, لا يدري ما هي صفات هذا الذي يبحث عنه, و لكنه يبحث عنه ويستدل عليه بآثار أفعاله بالمخلوقات من حوله. فالإنسان أولا يلاحظ آثار الأفعال و من ثم يعرف شيئا من الصفات.

فمثلا إن وجدت إنسانا فقيرا ووجدت آخرا قيل عنه بأنه كريم و رحيم بالفقراء, هل ستصدق ذلك؟ ربما... ولكن إن رأيت إنسانا آخر كل ما وجد فقيرا أعطاه من المال ما يحتاجه و هو في عون الضعفاء أينما كان ما الذي ستفهمه عن هذا الرجل؟ ستفهم بأنه جواد كريم وذلك بسبب ما عاينت من أفعاله. وكم من غير المسلمين عرف الله بعد أن رأى آثار أفعاله (إن جاز التعبير) في الكون. فبعض العلماء رأى هذا النظام العجيب في الكون وهذا الخلق العظيم فقال لابد من فعل ذلك هو حكيم و عليم و قوي و غير ذلك... ولهذا غالبا يدعو الله الناس في كتابه خاصة من لا يؤمنون به أو في شك منه إلى التفكر في مخلوقاته و لا يقول اعبدوني لأني فقط أنا الله! اقرأ مثلا: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)) و مثل قوله: ((أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) و ((وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)) و الكثير من الآيات, اختبر ما أكتبه هنا و ستجده صحيحا إن شاء الله.

وبما أن اسم "الرب" يشمل كل هذه المعاني المذكورة, فلذلك أقول والله أعلم بأنه أنسب تعريف لله, فإن قال لك أحد من هو الله تقول: "رب العالمين" أو "الرحمن الرحيم" و نجد كثيرا ما يقرن الله سبحانه و تعالى في كتابه بين اسم الله و رب العالمين. على سبيل المثال قول الله سبحانه و تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) و قوله: ((يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) و غيرها من الآيات. و بما أن الناس لا يعلمون أحيانا من هو "الرحمن" فناسب أن يُعرّف الله نفسه بأنه رب العالمين في بداية السورة. أما قديما فقد سجّل الله عدم معرفة البعض هذا الاسم ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَن)) وكذلك اليوم جرب و اسأل أكثر الناس اليوم سواء كانوا من الهندوس والبوذيين لن يعرفوا من أو ما هو الرحمن! ولكن إن قلت لهم رب العالمين أو God فحتى الملحد الذي لا يؤمن بوجود إله يعرف مباشرة من المقصود!

وبما أني ذكرت في المشاركات الخاصة بالبسملة بأن اسم "الله" اسم علم خاص بالله, و كذلك اسم "الرحمن" اسم علم خاص بالله, فناسب أن يُعرّف نفسه بأنه رب العالمين. سأعطيك مثالا لأوضح لك ما أقصده, تخيّل بأني أريد أن أخبرك عن "الأسد" و أنت لا تعلم شيئا عن هذا الحيوان فسألتني: و ما هو من هو الأسد؟ أجبتك هو: "حيدرة" فإن قلت لي و من حيدرة؟ أجيب: هو "الكهمس"!؟ فهل سيفهم هذا السائل بأني أقصد الحيوان المعروف؟ لا! ولكن أقول مثلا, الأسد هو حيوان من الثديات وكذا شكله و يلقب بملك الغاب ومن أسمائه "حيدرة" و "الكهمس"...الخ فهناك احتمال أكبر أن يفهم الطرف الآخر المقصود. وكذلك هنا ولله المثل الأعلى, عرّف بنفسه بأنه رب العالمين ومعلوم عند العالمين من هو المقصود برب العالمين وبما أن البشر لا سبيل لهم لمعرفة صفات الله من غير كتاب منزل أو نبي أو رسول إلا بمعرفة آثار أفعاله في الكون الذي هم فيه كما ذكرت سابقا, ناسب أن يذكر اسم الرب و هذه حكمة دقيقة فتأملها...

أما حظ المؤمن من اسم "الرب" فعلى المؤمن الذي عرف ربه و عرف بعض هذه المعاني من معاني هذا الاسم العظيم أن يكون ربانيا ويتصف بهذه الصفات على قدر ما تحتمله إنسانيته ولا يتعدى حدوده. فالمؤمن يعلم أن كل ملوك الدنيا ليسوا ملوكا وأن الملك المالك الحق هو الله سبحانه و تعالى. فلا يذل نفسه لأحد من مخلوقات الله ولا يظهر أو يبطن أي نوع من أنواع العبودية لغير الله ولا يتحكم به أحد أو يُسيطر على إرادته أحد إلا أن يوافق إرادته مراد الله. والمؤمن عليه أيضا أن أن يدبّر أموره بنفسه متوكلا على الله متخذا للأسباب, وكذلك يدبّر ما تحت تدبيره. و كذلك يربّي أبناءه و يقوم على أهله بما فيه صلاحهم ويقوّمهم إن احتاجوا لذلك و ينعم على خلق الله بشتى أنواع النعم, فيعطي هذا مالا و ذاك علما و يعالج هذا...الخ فإن فعل كل إنسان ذلك و حاول أن يتصف بهذه الصفات لقلت بأننا سنعيش في جنة على الأرض... لكن المشكلة عندما يتعدى الإنسان طور إنسانيته فيحاول أن يكون الرب الأعلى كما حاول فرعون فأفسد في الأرض, و كما يفعل طغاة اليوم, فكل واحد منهم يتعدى حظه من معاني صفات الرب, فالأول يحاول أن يكون الرب الأعلى و الآخر يريد كذلك هنا يفسد كل شيء. فعلى سبيل المثال يأتي انسان يريد أن يتصف بمعنى من معاني الرب... لنقل على سبيل المثال: "المالك" فيحاول أن يملك خلق الله ويتصرف فيهم كيفما يشاء متناسيا أنهم أيضا يستحقون أن يتصفوا بشيء من معاني الرب على قدر انسانيتهم, فإن فهم ذلك عرف أن المعنى المتناسب لإنسانيته أن يكون مالكا لنفسه لأفعاله و أن لا يعبد أحدا غير الله و من أمثال هذه المعاني لا السيطرة على الآخرين و خاصة أن الآخر كفؤ له. أما الله فهو أحد ليس كمثله شيء و ليس له كفوا أحد فيحق له السيطرة الكاملة.

وأريدك أيها القارئ أن تتأمل كيف بدأ الله كتابه بهذه الآية العظيمة... ((الحمدلله رب العالمين)) ... قل لي بربك أين تجد مثل هذه البداية العظيمة في الكتب السماوية أو كتب الديانات الكبرى!؟ بداية القرآن خرجت من مفهوم الزمان و المكان! بدأ الله سبحانه و تعالى كتابه ببداية قوية عظيمة مهيبة مشوّقة يذوق جمالها العامي قبل النحوي و المتفنن في اللغة العربية! بل الأجنبي قبل العربي و ذلك بقراءة الترجمة. سأعطيك أمثلة من بدايات بعض الكتب الأخرى ثم قارن بنفسك... بداية التوراة: "في الأول خلق الله السماء و الأرض" وفي التوراة العبرانية: "البداية خلق الله السماوات و الأرض" و في انجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة, و الكلمة كان عند الله, و كان الكلمة الله" واقرأ كتب الهندوس كالرج فيدا أو الباجافادجيتا و كتب البوذية و غيرهم ستجدها لا تخرج عن الزمان و المكان أو بداية ضعيفة مقارنة بالقرآن, ولعل من أحسنها بعد القرآن بداية كتاب كنزرابا: "هو الله... ملك أكوان النور, العزيز الغني الغفور, المياه التي تسيل و الجبال التي لا تميل" ولكن الكتاب كتب بعد القرآن وبالرغم من ذلك لاحظ البون الشاسع بين بداية القرآن وهذه البداية. أما البهائية ففي كتابهم المسمى بالـ(الكتاب الأقدس) فكتب بعد القرآن و البداية كالتالي: " إن أوّل ما كتب الله على العباد عرفان مشرق وحيه ومطلع أمره الذي كان مقام نفسه في عالم الأمر و الخلق من فاز به قد فاز بكل الخير و الذي منع أنه من أهل الضلال ولو يأتي بكل الأعمال" مباشرة تجد الفرق بين هذا الكلام و كلام الله في القرآن و تجد التشابه الكبير بين بداية كتابهم و كتابات أهل التصوف و الوعاظ من المسلمين.

لم يبدأ الله القرآن بإثبات أن الكتاب من عنده أو الرسول حق ولكن تجاوز حدود الزمان و المكان... لم يبدأ كتابه بوعد أو وعيد, ولكن بدأه بالثناء التام الكامل لنفسه... بغض النظر عن إيمان البشر أو كفرهم بالله, يبقى الحمد كله لله رب العالمين ولن ينفعوه و لن يضروه مثقال ذرة... تبارك الله رب العالمين, أشهد بأن هذا القرآن تنزيل من رب العالمين, ما أعظم هذه العزة, رب عزيز و كتاب عزيز نزل به ملك عزيز على قلب رسول عزيز إلى أمة عزيزة إن آمنا و علمنا و عملنا الصالحات. أخيرا, أقول من فهم بعض ما كتبته من معاني (الحمدلله رب العالمين) و إن كان له نفس زكية و قلب سليم, لغلب على ظني بأنه حين يناجي ربه في الخلوات وبدأ بالـ(الحمدلله رب العالمين) لامتلأت عيناه بالدموع تعظيما و حبا وشكرا واجلالا لله رب العالمين... سأكتفي إلى هذا الحد في الكتابة عن (الحمدلله رب العالمين) وإن شاء الله ألقاكم في مشاركة أخرى في سلسلة على ساحل القرآن, أسأل الله لي و لكم التوفيق و السداد و أن يرضى عنا و يغفر لنا و لوالدينا و للمسلمين و المسلمات... والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته....


1 comment:

  1. Do you think that "رب العالمين" could mean that there are other worlds where intelligent creatures exist?
    There is a verse in the Quran where God says that he created seven skys and earths do you think this is somehow a reference to parallel universes? The String theory even though it is still a not proven theory indicates the existence of parallel universes. Ibn Abbas explained the verse I'm speaking about as follows.
    Seven Earths in each earth there have been an Adam like "our" Adam a Noha like our Noha a Mohammed like our Mohammed... which is also an indication for parallel universes.
    what do you think of this topic?

    ReplyDelete