Monday, December 15, 2014

على ساحل القرآن - الحمدلله رب العالمين - الجزء الثاني



السلام عليكم ورحمة الله و بركاته. هذه المشاركة تابعة للتي قبلها و أحوم فيما حول قول الله العظيم ((الحمدلله رب العالمين)) ولكن قبل أن أبدأ أحب أن أنوّه أني أحيانا أكتب عن أسماء الله و أحيانا أستخدم كلمة "صفاته" و أنا أتحفظ من اطلاق هذه الكلمة و ذلك لأني لم أجد ذلك في كتاب الله, ولكن إن ذكرت فأقصد به ما تعارف عليه العلماء وهي في نظري أسماء أيضا, والعقل لا يمنع من ذلك. ولهذا إما أن أقصد ذلك وإما أن أكتب (إن جاز التعبير), و عودة إلى موضوعنا... ربما تسألني عن موجبات الحمد, فتقول لماذا هذه المبالغة في الثناء على الله و لماذا شُكرنا دائما قاصر؟ و قد يتساءل ضعاف الإيمان لماذا يستحق الله الحمد أصلا؟

في الواقع لا أجد إجابة خيرا من إجابة مستوحاة من كلام الله سبحانه و تعالى, والإجابة هي: لأنه (رب العالمين) فالله بعد أن أثبت الحمد لنفسه وصف نفسه بأنه (رب العالمين) ومن كان رب العالمين أفلا يستحق أن يحمد في كل لحظة من لحظاتنا. فالله سبحانه و تعالى أوجد كل شيء من العدم, فكل ما سواه كانوا عدما ليس لهم كيان و لا وجود ولا شيء يذكر, فكون إيجادهم من العدم مستوجب للحمد, هذا فقط إن اكتفينا بالإيجاد! ولكن الله لم يوجدنا فقط ولكنه ربّانا بالنعم و يمدنا بالحياة في كل لحظة ولو انقطع هذا المدد لحظة لانعدم كل شيء سواه كما فصّلت من قبل في المشاركات السابقة. أليس هو الذي خلقك و من ثم عرّفك بنفسه فقال لك بأنه (رب العالمين) فإن لم يقل ذلك ولم يعرّف نفسه و أخفى آثار أسمائه و صفاته (إن جاز التعبير) لن تعرف ما هو أصلك و كيف أتيت وستبقى حائرا طيلة حياتك و مجرد تساؤلك هو موجب للحمد إن تأملت ذلك ولكن تفصيل هذا بحاجة إلى تعمّق فلسفي لا أريد أن أخوضه لكي لا أغير مسار هذه المشاركة.

أما الكفار الذين يجحدون وجوده أساسا فهؤلاء قبل أن نثبت لهم بأن الله هو وحده المستحق للحمد على الحقيقة لابد أن نثبت لهم بأن الله موجود ولكن ليس هذا موضوعنا اليوم. وبما أني شرحت من قبل بأن نعم الله تحيط بالإنسان قبل ولادته و قبل خروجه من العدم و دخوله إلى هذا العالم فأصبح مدينا لله سبحانه و تعالى. وليس الإنسان فحسب, بل كل من خرج من العدم إلى الوجود سواء كان إنسانا أو ملكا أو عالما أو عرش الرحمن فإن كل هذه المخلوقات في عمق المسألة مدينة لله سبحانه و تعالى ولهذا ناسب أن يقول (رب العالمين) بعد الحمدلله و هذه حكمة دقيقة فأعط حقها من التأمل واقرأ ما كتبته مرة و مرتين لتفهم! وموجبات الحمد أكثر و أعظم من أن يحصيه البشر, فمن أراد بعضا منها فليقرأ ما كتبه العلماء في هذا الباب و من الذين فصلوا في موجبات الحمد كأبو حامد الغزالي في كتابه "أسرار الحكمة" و أيضا ابن قيم الجوزية في كتابه: "مفتاح دار السعادة" و الفخر الرازي في تفسيره و الشعراوي في خواطره حول القرآن, كل نفس و كل ثانية رزقتها فهي موجبة للحمد.

و هناك من قسّم أنواع المحامد و صنفها تحت تصنيفات فبعضهم قال خمسة و بعضهم قال أكثر أو أقل. ولكني أقول بأن جماع أقسام الحمد في سورة الفاتحة, فمن أنواع المحامد حمده سبحانه وتعالى على تفرده بالربوبية وأنه رب العالمين وهذا النوع من المحامد سيجرّنا بالضرورة على حمده عز و جل على ما له من أسماء و صفات (إن جاز التعبير) و هذا النوع الثاني سيضطرنا إلى حمد الله كونه ذا الألوهية على الخلق أجمعين فإنه المستحق للعبادة وحده. و أما النوع الرابع فحمده على أوامره و نواهيه و شرعه و دينه الذي ارتضاه لخلقه. ومن حمد الله على ألوهيته لفهم أن حمده ذاك موجب لحمد الله على أوامره و نواهيه و هذا الرابع سيؤدي إلى النوع الخامس و هو حمده على قضائه و قدره و ما يتعلق بها من أمور الآخرة. وتحت هذه الأنواع محامد لا يمكن لمخلوق من مخلوقات الله أن يحصرها أو يحصيها. النوع الأول من المحامد الذي ذكرته فهو مُستلهم من قول الله: (رب العالمين) و النوع الثاني من قوله (الرحمن الرحيم) وقد فصّلت سابقا بأن الرحمن يشمل ويدل على جميع أسماء الجلال أما الرحيم فيشمل ويدل على جميع أسماء الجمال و للتفصيل يرجى قراءة ما كتبته في المشاركات السابقة من السلسلة. وأما النوع الثالث فهو مستلهم من قوله (مالك يوم الدين) و (إياك نعبد و إياك نستعين). و أما النوع الرابع فمستلهم من قول الله عز و جل (اهدنا الصراط المستقيم) و أما النوع الخامس فمستلهم من قوله عز من قائل: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين) وكل هذه المحامد مرتبطة بعضها ببعض و يلزم بعضها بعضا وكل نوع من أنواع المحامد يؤدي إلى الأنواع الأخرى وبهذا يثبت أن الله وحده هو المستحق للحمد ولهذا ناسب أن يبدأ بـ: (الحمدلله). ما ذكرته يعتبر مفاتيح هذه المحامد فمن فهمها و عمل بما عرف لرجوت الله أن يفتح عليه من أبواب العلم ما كان يخفى عليه سابقا هذا والله أعلم و أعلم أن ما كتبته قد يبدو مجملا و لكني إن شاء الله سأحاول أن أفصّل ما كتبته عندما أكتب عن مجمل ما في سورة الفاتحة وإنما الغرض في هذه المشاركة التركيز على قوله: (الحمدلله رب العالمين).

كتبت في المشاركة السابقة بعض الحكم في كون الثناء و الشكر لله في كلمتين (الحمدلله) و تذكرت بأن الشيخ الشعراوي رحمه الله قد أتى بحكمة لم أجدها عند أي مفسّر آخر ولم يخطر في بالي, فأحب أن أنقل كلامه فإن فيه فائدة وحكمة دقيقة, قال الشيخ الشعراوي: "ولعلنا نفهم ان المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الانسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصي في معاصيه... فلنقلل من الشكر والثناء للبشر.. لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد. فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين.. لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الالهي.. فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير. فهم عاجزون على أن يصلوا الى صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم. . فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته؟ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الالوهية لله، فقال: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"

وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع ان يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات البشر في الحمد. . طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا. ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له. . فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم.. أن نقول (الحمد للَّهِ) ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام"

عند كتابتي حول (بسم الله الرحمن الرحيم) كتبت السبب في كون " كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأُ فيه ببسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ أقطعُ" وينسب أيضا للرسول صلى الله عليه و سلم قوله: "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيهِ بالحمدِ أقْطَعُ" بالرغم من اختلاف العلماء في الحكم على الحديث (وشخصيا لا يطمئن قلبي لسند الحديث) إلا أني أرى هذا المعنى صحيح وإن لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك لأنك حينما تبدأ أمرا بالـ(الحمدلله) و كأنك أثنيت على الله الثناء و قدّمت له الشكر على نعمه العظيمة, فهذا اعتراف منك بأن الأمر الذي تريد أن تبدأ به ليس بمقدورك لولا فضل الله عليك و نعمه المحيطة بك. وأيضا فيه أدب مع الله سبحانه و تعالى, إننا اليوم قبل أن نبدأ بأمر نحن على مرأى من الملوك و السلاطين و الأمراء أول شيء نقوم به نقدّم الشكر و هذه العادة منتشرة خاصة في الخليج العربي, فقبل أن يبدؤوا موضوعهم يقولون مثل: "أولا أتقدم بجزيل الشكر إلى القيادة الحكيمة, أو الشيخ الفلاني...الخ" تأدبا معهم و اعترافا منهم لفضلهم و إحسانهم إليهم. ولكن الأمير لم يكن ليحسن إليك لولا إحسان الله إليه و تمكينه من الإحسان إليك, وهذا الشيء ليس عليك رقيب و شهيد بحيث يعلم ما تعلن في جميع الأحوال ولا سبيل له إلى معرفة ما تخفيه في صدرك. أما الله سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى, فهو على كل شيء شهيد, و هو المنعم عليك وعلى الملوك و السلاطين و الأمراء أو الشيوخ. ثم هو يعلم ما تخفيه و ما تعلن, ويعلم ما في قلبك من نوايا.

فقل لي بربك, هل يليق بك أن تحمد و تشكر هؤلاء قبل أن تشكر الله رب العالمين؟ فإن فعلت ذلك فأنت كمن أهدي إليه بهدايا و جوائز عظيمة و كثيرة من ملك عظيم من ملوك الدنيا, و جاء بهذه الهدايا رسول هذا الملك أو خادمه, فانشغل بشكر الخادم ومدحه بدلا من شكر الملك! فإن لم ينشغل قدّم شكر الخادم على شكر الملك! وهذا كقولك: "أشكر الأمير فلان على هذه الفرصة و الحمدلله على هذه الفرصة" فانظر ما أقبح هذا السياق, و هذا السياق طبعا لا يقبُح عند من يشعرون بالخوف من البشر أو يستحون منهم, أو لا يشعرون بعظيم نعم الله عليهم! فأقول لهم: أقل شيء إن لم تستطيعوا أن تعترفوا بألسنتكم فلتعترف قلوبكم أولا بأن الحمدلله أولا" فإن شكر القلب فلا بأس حينئذ إن شاء الله لمن كان مُخوّفا أو ضعيفا أو ما شابه ذلك. وما أقبح أن تستمتع بنعم الله عليك و تستخدمها هنا و هناك و أنت لم تحمده قبل البدأ. تذكر أنك في هذه الدنيا و كأنك في ضيافة وأمامك مائدة عظيمة مليئة بالأطعمة و الأشربة, كل و اشرب و انتفع وخذ معك من الطعام و الشراب ما تستطيع أن تدّخره ولكن لا تنسى أن تحمد من استضافك أولا! فإن فهمت ما كتبته فستفهم ما الحكمة من كون: "كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيهِ بالحمدِ أقْطَعُ". فأنت إن بدأت بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) فأنت اعترفت بأنه لا يمكنك أن تبدأ بما ستبدأ به إن لم يعنك الله, و عندما تبدأ بـ(الحمدلله) فأنت تعترف بأنه لولا نعم الله عليك لن تسطيع أن تبدأ ما تريد أن تبدأ به. و أسأكتفي إلى هذا الحد و سأكمل إن شاء الله في الجزء الثالث لاستخراج بعض معاني (رب العالمين) و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.




1 comment: