Friday, September 26, 2014

مداواة العجب – الجزء الثاني



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... هذه المشاركة تابعة للتي قبلها, وهذه المشاركة ستكون مخصصة لعلاج من أصيب بالعجب سواء في علمه أو ماله. قال ابن حزم رحمه الله: "وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك تعالى فلا تقابلها بما يسخطه فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت , ولقد أخبرت عن عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً لم يعاوده ذلك الذكاء بعد. وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له فما عاودته إلا بعد أعوام . واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً. فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه فصح أنه موهبة من الله تعالى فأي مكان للعجب ها هنا! ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها.

ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم ثم من أصناف علمك الذي تختص به. فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً فلتهن نفسك عندك حينئذ وتفكر في إخلالك بعلمك وأنك لا تعمل بما علمت منه فلعلمك عليك حجة حينئذ ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً. واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر فليسقط عجبك بالكلية. ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة فتهون نفسك عليك .

وإن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك ولعلهم أخساء وضعفاء سقاط ، فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه، ولعلهم ممن يستحيا من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وأخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شاركك فيها من ذكرتُ لك .وإن كنت مالك الأرض كلها ولا مخالف عليك -وهذا بعيد جداً في الإمكان فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كله على قلته وضيق ساحته , بالإضافة إلى غامرها فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط؛ فتفكر فيما قال ابن السماك للرشيد وقد دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه فقال له : يا أمير المؤمنين فلو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها ؟ , فقال له الرشيد : بملكي كله . قال: يا أمير المؤمنين فلو منعت خروجها منك بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله. قال يا أمير المؤمنين أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء! وصدق ابن السماك رحمه الله. وإن كنتَ مَلِكَ المسلمين كلهم فاعلم أن ملك السود - وهو رجل أسود رذل مكشوف العورة جاهل- يملك أوسع من ملكك , فإن قلت أنا أخذنه بحق فلعمري ما أخذته بحق إذا استعملت فيه رذيلة العجب وإذا لم تعدل فيه، فاستحي من حالك فهي حالة رذالة لا حالة يجب العجب فيها .وإن أعجبت بمالك فهذه أسوأ مراتب العجب فانظر في كل ساقط خسيس فهو أغنى منك فلا تغبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت , واعلم أن عجبك بالمال حمق لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا أن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط والمال أيضاً غاد ورائح وربما زال عنك ورأيته بعينه في يد غيرك. ولعل ذلك يكون في يد عدوك فالعجب بمثل هذا سخف والثقة به غرور وضعف .

وإن أعجبت بنسبك فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة. وانظر هل يدفع عنك جوعة. أو يستر لك عورة أو ينفعك في آخرتك .ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك وربما فيما أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ثم ولادة الخلفاء ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة ثم ولادة التبابعة وسائر ملوك الإسلام. فتأمل غبراتهم وبقاياهم , ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة وتلفهم في غاية السقوط والرذالة والتبدل والتحلي بالصفات المذمومة فلا تغتبط بمنزلة هم فيها نظراؤك أو فوقك , ثم لعل الآباء الذين تفخر بهم كانوا فساقاً وشربة خمور ولاطة ومتعبثين ونوكى أطلقت , الأيام أيديهم بالظلم والجور فأنتجوا ظلماً وآثاراً قبيحة تبقي عارهم بذلك الأيام ويعظم إثمهم والندم عليها يوم الحساب , فإن كان كذلك فاعلم أن الذي أعجبت به من ذلك داخل في العيب والخزي والعار والشنار لا في الإعجاب .

فإن أعجبت بولادة الفضلاء إياك فما أخلى يدك من فضلهم إن لم تكن أنت فاضلاً وما أقل غناهم عنك في الدنيا والآخرة إن لم تكن محسناً ! , والناس كلهم أولاد آدم الذي خلقه الله بيده وأسكنه جنته وأسجد له ملائكته. ولكن ما أقل نفعه لهم وفيه كل معيب وكل فاسق وكل كافر .وإذا فكر العاقل في أن فضل آبائه لا يقربه من ربه تعالى ولا يكسبه وجاهة لم يحزها هو بسعده أو بفضله في نفسه ولا مالاً فأي معنى الإعجاب بما لا منفعة فيه! وهل المعجب بذلك إلا كالمعجب بمال جاره وبجاه غيره وبفرس لغيره سبق كأن علي رأسه لجامه! وكما تقول العامة في أمثالها: "كالغبي يزهي بذكاء أبيه".

فإن تعدى بك العجب إلى الامتداح فقد تضاعف سقوطك لأنه قد عجز عقلك عن مقاومة ما فيك من العجب هذا إن امتدحت بحق فكيف إن امتدحت بالكذب ! , وقد كان ابن نوح وأبو إبراهيم وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرب الناس من أفضل خلق الله تعالى وممن الشرف كله في اتباعهم فما انتفعوا بذلك. وقد كان فيمن ولد لغير رشدة من كان الغاية في رياسة الدنيا كزياد وأبي مسلم ومن كان نهاية في الفضل على الحقيقة كبعض من نُجِلُّه عن ذكره في مثل هذا الفصل ممن يتقرب إلى الله تعالى بحبه والاقتداء بحميد آثاره."

No comments:

Post a Comment