Tuesday, December 17, 2013

سلسلة تصحيح مفاهيم: فاسألوا أهل الذكر


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... قررت أن أكتب سلسلة مقالات لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة المتداولة على ألسنة العوام قبل العلماء وطلاب العلم, وذلك من مقتضى الشهادة لله والذب عن دينه وفي محاولة تحسين صورة الإسلام بعد أن تم تشويهها من قبل البعض بقصد أو بغير قصد بسبب هذه المفاهيم الخاطئة ولا أدّعي لنفسي العصمة بل أنا أخطئ وأصيب مثل غيري من الناس ولكن هذا لا يعني بكوني غير معصوم أن لا أنصح غيري وأحاول تصحيح بعض المفاهيم إن غلب على ظني بأن لي علما في الموضوع.

قال الله سبحانه وتعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))  قال الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسيره: "قول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا ، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحي إليهم وحينا لا ملائكة، يقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قَبلهم من الأمم من جنسهم وعلى منهاجهم ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا نرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من بني آدم مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: هم ملائكة: أي ظننتم أن الله كلمهم قبلا فاسألوا أهل الذكر ، وهم الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم: التوراة والإنجيل، وغير ذلك من كتب الله التي أنزلها على عباده." فالسياق يبدو في إرشاد الكفار ـ المعاندين والمكذبين ـ إلى سؤال من سبقهم من أهل الكتاب. الناس اليوم يستدلون بهذه الآية: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) لتزكية العلماء وأننا يجب أن نرجع إليهم في جميع الحوادث وغير ذلك, وفي نظري هذا فيه نظر!

بيان ذلك, أقول بأن الله سبحانه وتعالى أرشد كفار قريش لسؤال أهل الذكر والله أعلم لأن أهل الذكر كان لهم علم ليس عند كفار قريش, عندهم علم بالكتب السماوية سواء التوراة أو الانجيل أو غيرها من الكتب وكفار قريش لا علم لهم وعرفوا بأنهم أمة أمية وهذا منطقي, فالإنسان الذي لا يعلم يسأل أهل اختصاص هذا العلم ليتعلم ولكن المشكلة تقع عندما تُعمّم هذه القاعدة فيقولون ارجعوا إلى العلماء في كل الحوادث وإن خالفتهم إنك إذا لمن الضالين! أحب أن أسأل سؤالا, ما الذي ينتظره الناس من العلماء؟ ينتظرون ويريدون منهم ما ليس عند أحد سواهم إلا هم. لأضرب لكم مثالا لأوضح ما أقصده, إن وجدت ألما في أسنانك فإلى من تذهب؟ تذهب إلى طبيب الأسنان ولا تذهب إلى طبيب العظام أو الأنف والأذن والحنجرة وهذا منطقي وكذلك الإنسان الذي لا يحسن القراءة وأراد أن يفهم ما هو مكتوب على ورقة ما يسأل من يحسن القراءة.

المشكلة إن كنت تحسن قراءة اللغة العربية وتفهم الكلام المكتوب ولكنك تُقيّد نفسك فلا تجرأ على الفهم والقراءة بل ربما تأخذ هذه الورقة إلى دكتور في اللغة العربية ليقرأ لك ما هو مكتوب, هنا عندنا مشكلة عظيمة! هناك أمور يحسنها العامي والعالم, أقصد عامي هذا العصر الذي قرأ وكتب ودرس بغض النظر عن تخصصه ولا أقصد الأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة. فأنا أنتظر من الطباخ أن يطبخ لي لأنه يملك آلات الطبخ وتعوّدت عليه فأنا أطلب منه ذلك, ولكن هل هذا يعني أنني لا أستطيع أن أطبخ أو لا أحسن الطبخ؟ ليس بالضرورة. على المثال الشخصي, أخي ليس طباخا رسميا ولم يتعلم فنون الطبخ ولكنه يطبخ بطريقة عفوية إلا أن أحيانا أجد ما يعدّه من الأطعمة ألذ بكثير من أطعمة المختصين ومثل هذا معروف بين الناس ومنتشر.

فالعامي اليوم قبل طالب العلم يعرف القراءة والكتابة, بل ربما تجد في مكتبته آلاف الكتب وقرأ ألوف الأحاديث النبوية ولكنه ليس بعالم فهل نقول لمثل هذا لابد أن تسأل أهل العلم في كل مسألة متعلقة عن الدين أم فقط تسأله فيما أنت بحاجة إليه؟ إن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم كل شيء يتعلق بالقرآن ولكنهم كانوا يسألونه ما كان يُشكل عليهم؟ فهل يجب علي أن أسأل أهل العلم ما معنى قول الله سبحانه وتعالى: ((الحمدلله رب العالمين)) واليوم أي عامي يستطيع أن يقرأ تفسير هذه الآية لأكثر من 100 مفسر في أقل من ساعة! فهل يمنع مثل هذا من فهم القرآن أو الرد على من سبقه من العلماء إن هو خالفهم في مسألة ما؟ الحافظ الذي كان يحفظ ألف حديث ربما كان يسمى عالما في زمانه, فهل يلزمني أن أحفظ 1000 حديث لأرد عليه وأنا أستطيع أن أقرأ 5000 حديث ربما لم يطلع عليها من سبقني من علماء السلف؟

يقول بعض العلماء بأن مشكلتنا اليوم هناك استهانة بالعلماء وكلامه صحيح ولكن أيضا عندنا مشكلة عظيمة, هناك استهانة عظيمة بالعقل البشري!؟ وكأننا لا نستطيع أن نفكر ولا نعي ما نقرأ وإن كان كثير منا لا يستطيع معرفة دقائق المسائل ولكن كلنا اليوم نعلم بأن الأرض كروية فإن وجدت عالما كبيرا من العلماء قال إنها مسطحة, فهل آخذ بكلامه ولا أرد عليه لأنه عالم وأنتظر إلى أن يقوم أحد كبار أهلم بالرد؟ هل لأن العلماء لم يدركوا مسألة أو لم يتطرقوا إليها وثم أتيت أنا وتطرقت إليها أكون زنديقا ضالا؟ وهل من كان عالما في التفسير هو عالم في الحديث؟ وهل من كان عالما في الحديث هو عالم في الفقه؟ وهل من كان عالما في الفقه هو عالم في أصول الفقه أو عالم بالمنطق أو بالسياسة...الخ  لا!! للأسف نجد بعضهم ينكر على عالم يفسر آية من القرآن تفسيرا علميا فقط لأنه يخالف من سبقه من العلماء الذين لم تتوفر لهم هذه الإمكانات العلمية كما هي متوفرة اليوم وهذا في الحقيقة ظلم وكأنهم يحتكرون ويختزلون فهم القرآن الكريم والعياذ بالله. يأتي عالم من علماء السلف ينظر إلى الآية من منظور لغوي ويأتي عامي مثلي اليوم ينظر إلى الآية من زاوية أخرى غير زاوية العالم السابق فهل يُنكر علي ذلك!؟ العقل يقول لا ولكن الواقع يقول نعم لابد أن ينكر عليك فمن أنت! ولم لم تسأل العلماء!؟ سبحان الله! ألم يقل الله سبحانه وتعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) أي لقد سهلنا القرآن وهوّناه لمن أراد التذكر به, وسهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد أن يحفظه. فالقرآن لا يعتبر كتاب طلاسم وألغاز ليُمنع اليوم من الفهم بطريقة مختلفة عن بعض علماء السلف. العالم الفيزيائي يفهم من الآية شيء, والعالم الكيميائي يفهم شيئا آخر, والعالم اللغوي يفهم معاني والفقيه يفهم هذا وذاك, وهكذا ولا بأس في ذلك إن لم يكن الزام لما فهموه من الآية.

كثيرا ما أجد نفسي في نقاش مع مشايخي فآتي ببعض الأمور المخالفة لبعض العلماء فيقول تعلم اللغة العربية والقراءات والحديث و و و ثم خالفهم, وهل يلزمني أن أضيع من عمري سنوات لحفظ ومعرفة قواعد اللغة العربية والنحو والصرف, و أصول الفقه والاجماع والمتواتر والحديث المنكر من الحديث المفرد والغريب و أقرأ مجلدات كتب التفسير و و و و يضيع من عمري 30 سنة لأفهم كتاب الله؟ لا! لا يكون ذلك وإلا لم يكن الله ليدعو الناس للتفكر في آياته بل قال سبحانه وتعالى: ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) فالله سبحانه وتعالى لم يخصص ولم يقل فقط على العلماء وأهل الذكر أن يتدبروا وعلى العوام أن يسألوا العلماء في كل شيء!!! بل الله سبحانه يدعو الناس جميعا إلى تدبر آياته, وأما من كان ضعيفا لا يستطيع أن يعلم من نفسه فالله أرشده إلى سؤال من يعلم ويستطيع توفير المعلومة وهذ صحيح ومنطقي ولا يختلف عليه أحد.

أود أن أحذركم بأنكم قد تجدون أنفسكم في نقاش مع طالب علم وربما خالفتموه في معنى آية قرآنية فيأتي طالب العلم هذا فيقول: "فسّر لي قول الله (من شر غاسق إذا وقب)" وبما أنك لم تقرأ تفسير هذه الآية فتقول لا أدري وعندما تقول ذلك, يقول لك إذا من أنت لتخالفني أو تخالف العلماء في بقية الآيات وأنت لم تعرف معنى كلمات ترددها باستمرار؟ أو يقول لك اعرب هذه الجملة ثم لا تنجح في الإعراب فيقول أنت جاهل وبما أنك جاهل فإنه من المستحيل أن تفهم أمرا ما في القرآن! فقط لفشلك لإعراب آية وإن كنت مفكرا وفيلسوفا في جانب علمي آخر. هذا يحصل مع البعض باستمرار, أقول هذا تصرف ماكر ولكن لا ينطلي على الذين يستخدمون عقولهم, قد تستغربون ذلك ولكني سأوضح لكم بأن هذه حجة غير صحيحة بمثال... لنفترض أنك طبّاخ وتحسن طبخ أكلات لذيذة إلا أن أكلة معينة لا تحسنها ولم تجربها فقلت لا أعرفها ولم أذقها, فهل هذا يعني أنك لا تحسن طبخ أية أكلة أخرى؟ لا!!! فكذلك نحن يا مولانا! قد لا نحسن تفسير كلمة ولكن ربما الله سبحانه وتعالى منّ علينا بأن رزقنا ملكة الاستنباط والتفكير المنطقي العقلاني و رزقنا فهم دقائق معاني الآيات بالفلسفة وغير ذلك من العلوم, فهل لأني لم أنجح في معرفة معنى كلمة واحدة أو تفسير آية أني لا أحسن أي شيء آخر؟ هذا خطأ وللأسف خطة ماكرة يستخدمها كثير من طلاب العلم اليوم فاحذروا!

أريد أن أعرف من هو العالم بنظركم؟ لا نكاد نصطلح على تعريف, فأحدهم يقول العالم الذي يخشى الله, وآخر يقول العالم الذي يعمل بما علم, وآخر يقول العالم الذي أتقن آلات العلم, وآخر يقول الذي حفظ القرآن وحفظ 400 ألف حديث وآخر يقول كذا وكذا. قرأت في الكتاب الماتع "مفتاح دار السعادة" للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: "سأل فرقد السبخي الحسن (التابعي المشهور) عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك! فقال الحسن: ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت بعينيك فقيهاً؟! إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الاخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علمه الله تعالى أجراً" فإن كان هذا في زمن الحسن البصري رحمه الله فماذا نقول نحن اليوم!؟ و الواقع شاهد على ذلك, فاليوم مثلا نجد من يتكلم في الدين يقال عنه عالم وفئة أخرى تقول عنه جاهل وفئة ثالثة تقول عنه زنديق وفئة رابعة تقول عنه إمام و من أمثلة من اختلف الناس عليه اليوم مثل القرضاوي و الفوزان و الحويني ومثل عدنان ابراهيم وحسن المالكي فكل من ذكرت حصلوا على ألقاب مختلفة ومتشاكسة! فهل على العامي أن يسأل أهل الذكر أيضا ليعلم إن كان هؤلاء ينطبق عليهم بأنهم من (أهل الذكر) وأهل الذكر أنفسهم لا يتفقون على ذلك؟ أو أنه يقرأ لهؤلاء ثم يقارن أقوالهم بالقرآن الكريم والسنة ويختار الأقرب؟ أم حتى في هذا ستقولون اسأل العلماء ولا تختار وقد علمتم الاختلاف السابق؟ أعوذ بالله من التفكير الغير سليم...

ثم أخبركم عن خطورة هذه المنهجية, أقصد تقديس العلماء (وإن كانوا لا يعترفون بذلك ولكن في الواقع نجد هناك عدد ليس بقليل ممن يقدّسون العلماء سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا) تخيل إني ولدت يهوديا أو مجوسيا, فإن قالوا لي لا تخالف العلماء وأهل العلم في اليهودية فبربكم متى أكون مسلما!؟ إن كنت مجوسيا وأمرني قومي بأن أسأل أهل العلم في الديانة المجوسية والرجوع إليهم وعدم مخالفتهم, فكيف سأجد الاسلام؟ فإن قلت بأن هؤلاء غير مسلمين فأقول إن كان منهجك هو المنهج العلمي الصحيح لانطبق على الجميع وليس على طائفة من الناس فقط! مثل قول الله سبحانه وتعالى: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) فمن أتى بشيء جديد نقول له أين البرهان على ما تقول سواء كان مسلما, يهوديا, نصرانيا, هندوسيا...الخ

أعزائي القرّاء, إن الله أنعم علينا بنعمة العقل والتمييز و التفكير, وقال سبحانه في كتابه: ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) ومعنى الآية على حسب فهمي أي أن الله سبحانه وتعالى بيّن الطريقين, طريق الخير وطريق الشر, فلا ينبغي أن نجحد هذه النعمة أو نعطّلها بل نستخدمها ونتبع المنهجية العلمية الصحيح للوصول إلى الحق, الله لا يريد منك أن تستعير عقل غيرك ولا يريدك أن تكلف من يفكر عنك وإلا لم تكن أهلا للتكليف! ولكنك أيها الإنسان أهل للتكليف لأنك تستطيع أن تختار وتفكر بنفسك. إن وجدت نفسك تخالف العلماء لا بأس ولا تخف وتتردد وتعطل تفكيرك! لا, إن كانت لديك قناعة معينة أو مسألة خالفت فيها من سبقك من العلماء فليكن ذلك بناءً على أدلة ومن ثم هذه الأدلة تتم مناقشتها للوصول إلى الحق. ولا أقصد في هذه المشاركة تعمد مخالفة العلماء أو السخرية منهم أو الفتوى وغير ذلك فلا يفعل ذلك إلا جاهل, ولكن كل ما أطلبه من الناس أن يفكروا ولا يغتروا بترديد بعضهم قول الله سبحانه وتعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) وهم لا يفقهون معناها بل يقلدون من سبقوهم, هذا والله أعلم وما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان.

No comments:

Post a Comment