Saturday, November 30, 2013

لا تؤمن بي


قد تستغربون عنوان هذه المشاركة, اخترت هذا العنوان أولا لجذبك أيها القارئ الكريم, و ثانيا لانتشار ظاهرة الإيمان بالآخرين. أما عن جواز هذا الإيمان وغيره فلن أتطرّق إليه, ولكن هنا سأكتب عن خطورة الإيمان بي وبغيري و بالمجتمع وبالنمط السائد والطائفة والحزب...الخ أما خطورة هذا الإيمان لأنه يؤدي عادة إلى الشرك بالله من غير أن نشعر, وقبل أن تتساءل كيف ذلك, أذكرك بحال المشركين عبدة الأصنام... كيف تظن أنهم أشركوا بالله؟ لعله ظنّ كبراؤهم بأن هذه الأصنام تنفع وتضر وترزق وغير ذلك, فما كان من المجتمع حينها إلا أن آمنوا بمقولة هؤلاء المشركين فعبدوها من دون الله ولعل من عبد لا يعلم ما تعني الآلهة ولا يعلم معنى العبادة ولكنه يغضب غضبا شديدا إن أنكر عليه أحد بأن عمله هذا (عبادة الأصنام) عمل غير صالح وسبب هذا الغضب انفعالاته, وتثور مشاعره لأنه يظن بأن هذا المؤثر الخارجي يعكر صفو مشاعره تجاه من يؤمن به.

بيان ما سبق, كم منا اليوم يدافع عن فكرة أو عقيدة من العقائد فقط لأن هذا هو السائد في مجتمعه؟ مثال ذلك, كم تسمع في قصص الصالحين من ذهب ينصح قومه فرموه بالحجارة بل شارك في هذا الرجم بالحجارة الأطفال الصغار؟ ولعل فيما يروى عن قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته في الطائف عبرة عظيمة لنا. هؤلاء الأطفال فعلوا ما فعلوا ليس ادراكا منهم بخطورة هذا الرجل, بل ربما لا يدركون الفرق بين الخير والشر ولكنهم فعلوا ذلك لأنهم آمنوا بكبراء قومهم, آمنوا بآبائهم وأمهاتهم ففعلوا فعلة لو أدركوا حقيقتها وخطورتها وعظمها, لتمنى أحدهم أن تقع عليه السماوات السبع قبل أن يقدم عليها. لمزيد من التوضيح, دولة من الدول, تبنّت فكرة معينة او اتخذت قرارا, تجد أن شعب هذه الدولة كله يشيد بأفكار الدولة وقراراتها وربما غالب الشعب لا يعرف ما هي الفكرة التي تبنّتها (أقصد لا يدرك حقيقتها وفوائدها وأضرارها, يدرك اسمها فقط), ولا يعرف ما هي الآثار المترتبة على القرارات المتخذة وما هي فوائدها وغير ذلك ولكن مواطن هذه الدولة يشيد بالفكرة أو المسابقة أو غير ذلك لأنه مؤمن بالدولة أو الحكومة او النظام (سمّه ما شئت) فقط لأنه مؤمن بالجماعة التي هو فيها من غير ادراك شخصي لما يؤمن به حقيقة فإن أتت حكومة أخرى وبينت أن هذه الفكرة خطيرة جدا وأن هذه المسابقة تؤدي إلى قتل كثير من البشر وغير ذلك غضبت الأولى وغضب معهم الشعب لأنهم مؤمنون بعضهم ببعض, وقس على ذلك على المستوى الفردي والجماعي.

أما على مستوى العقائد, فقد سبق وقلت بأن المشركين أشركوا ربما بسبب إيمان الغالبية بعضهم ببعض, وعلى المستوى الإسلامي, تجد أهل الحديث لا يكادون يجرؤون على تصحيح حديث ضعفه البخاري ولا تضعيف حديث صححه البخاري بالرغم من توفر الأدلة على خلاف ما ذهب إليه البخاري, لماذا يا ترى؟ لأنهم آمنوا بالبخاري, آمنوا بأنه الأعلم في هذا الباب وبهذا فإن أتى عالم آخر لم يقبلوا قوله بل ربما اتهموه بالزندقة خاصة إن كان من علماء الخلف لأنه يخالف البخاري فقط من غير ادراك أدلة هذا المخالف أو حتى قراءتها فكأنهم جعلوا البخاري في قلوبهم وثنا يعبد من دون الله. تجد السلفي لا يكاد يخالف منهج الألباني وابن باز وابن عثيمين, وكذلك تجد الشيعي لا يكاد يخالف منهج الكوراني والحيدري وغيرهم وهكذا... ليس لأنهم مقتنعون بأدلة هذا أو ذاك ولكنهم مؤمنون بأشخاصهم فبالتالي آمنوا بأفكار هم لا يدركونها ولا يعقلونها, مجرد إيمان غير قائم على تحليل واختيار عقلي إلا من رحم ربك. فإن قلت إن الألباني أخطأ في هذه المسألة, لقامت قيامة البعض ويغضب ويثور ولعله لن يرتاح إلا أن تختفي من الوجود! حتى إن قلت له, قال الله وقال رسوله و هذه أدلتي الأول والثاني والثالث. هؤلاء آمنوا بالألباني ولم يؤمنوا بما آمن به الألباني. ملاحظة: أبدا لا أقصد تنقص أي من الأفكار والأطراف والأشخاص , ولا أزعم أن هذا هو الغالب ولكن هذا موجود ولا ينكره إلا إنسان يكابر الواقع وهذه الأمثلة تساعد على فهم ما أنا ذاهب إليه)

قد تقول ما منبع هذه الفكرة في مخيّلتك, أقول لك المنبع قول الله سبحانه وتعالى: ((وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِين)) قالها ابراهيم عليه الصلاة والسلام منكرا على قومه. تأملت هذه الآية وتفكّرت فيها, فقلت لم قال الله سبحانه وتعالى يكفر بعضكم ببعض, فقلت لعل سبب ذلك أنهم في الدنيا آمنوا بعضهم ببعض, وكان نتيجة هذا الإيمان تقليدهم بعضهم بعضا فناسب أن يكفروا ببعض يوم القيامة والله أعلم. ثم أرجوك أن تعطي هذه الآية ولو قليلا من التأمل, لوجدت فيها: ((إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) وكأن فيها إجابة عن سبب إيمان الناس بعضهم ببعض! تأمّلت معظم الفرق الإسلامية بل معظم الديانات والحكومات بل كثير من الناس لا ينفكون عن ذلك, كما وضحت في هذه المشاركة, إنما يؤمن الشعب بالحكومة مودة بينهم في الحياة الدنيا (من أجل فلان ومن أجل خاطر علان) بغض النظر عن ما تؤمن به الحكومة, و كذلك اليهود والنصارى والهندوس وأيضا المسلمين. فأهل الحديث مثلا لا يجرؤون على مخالفة أهل الحديث مودة بينهم في الحياة الدنيا لأنهم لا يستطيعون تحمل الذم أو لا يستطيعون تحمل إن وصفوا بالزندقة وغير ذلك, والسلفية لا يخالفون بعضهم البعض كي لا يتم تبديعهم (مودة في الحياة الدنيا) و كذلك الإخوان ربما يتهمون الحكومة بالكفر لأنهم آمنوا برموز وعناصر الحزب الذي ينتمون إليه وقس على هذا الشيعة والصوفية والأشاعرة وجميع الفرق والمذاهب الإسلامية. وبما أنهم آمنوا ببعضهم البعض من دون إدراك بما يؤمن به الطرف الآخر أو تعقّل, وبما أن يوم القيامة يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ويأتي كل منا ربه فردا, يومها سيكفر بهذا وذاك, وربما كان من القائلين: ((رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)) وما حال هذا حينما يأتيه الجواب: ((قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ)) أعوذ بالله أن نكون منهم.

قد تقول ما هذا الخطر العظيم الذي ذكرته, إننا واقعون في مثل ما وصفت! فما الحل؟ الحل أيها القارئ أن تترك الإيمان بهؤلاء وتؤمن بالله العلي العظيم إيمانا حقيقيا. إن كنت لا محال مؤمنا بما يؤمن به من تؤمن به, فحاول أن تدرك وتقتنع بما يؤمنون به ولا يكون إيمانك من غير اقتناع وادراك! فلا يكون إيمانك مجرد إيمان اتباع للنمط السائد ومودة في الحياة الدنيا. الحقيقة تدبرت القرآن فلم أجد الله عز و جل يحث الناس بأن يؤمنوا بعضهم ببعض ولا بأفكارهم ولكن أمرهم بالإيمان به سبحانه وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لأن هذا الإيمان لا تشوبه شائبة. إن آمنت بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم تدرك بعض معاني أقواله صلى الله عليه وسلم لم تكن في خطر يوم القيامة بإذن الله لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وقد عصمه الله من أن يبلغ عن الله الخطأ أما العلماء من بعده والطوائف والدول والشعوب كلها قابلة للخطأ فلذلك كان مطلوبا منك أيها الإنسان أن تعمل عقلك وأن لا تجحد هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله عليك. أقصد بالنعمة, نعمة العقل و الاختيار. فانظر ما يدعو إليه الناس وتأمل وادرك فإن اقتنعت بقوله و وجدته موافقة لكتاب الله وسنة نبيه فهذا هو المطلوب وإن كان غير ذلك فلا عليك إن كان الناس كلهم مؤمنون بهذا القول وأنت الوحيد الذي لا تؤمن. كتبت قبل أعوام مشاركة بالإنجليزية عن نفس الموضوع, وكان الحل أن تجتنب كل هؤلاء وتخلو بنفسك وتدرس هذه الأفكار التي تؤمن بها والتي خالفك فيها الناس وتتأمل من غير عصبية أو انتماء إلى فرقة من الفرق, ثم اعمل قاضي العقل واختر بعدها ما شئت.

في هذه المشاركة, أدعو أبي وأمي, فأقول لأبي لا تؤمن بالعلماء الذين وثقت بهم من دون ادراك منك لما يُؤمنون به, حاول أن تدرك ما يقولونه ثم ان اقتنعت فاختر ما شئت! وكذلك أقول لأمي, لا تؤمني بأبي, ولا يحملنّك الثقة و حب أبي أن تؤمني به بحيث تؤمنين بكل ما يأتي به وتكفرين بكل ما يخالفه فإن يوم القيامة لن يغنيك أبي شيئا. وكذلك أقول لإخواني الذين ينصرون أقوالي وأفكاري أو يخالفونها, لا تؤمنوا بي ولا تكفروا بما آمنت به, ابحثوا فيما أقول فإن كان مقنعا زنوا أفكاري وأقوالي بكتاب الله وسنة نبيه, فإن كان موافقا فآمنوا بما آمنت به ولا تؤمنوا بي شخصيا وأقول كما قال من سبقني: "إياكم أن تربطوا الحق الذي أدعوكم إليه, بشخصي المذنب الفاني. ولكن عليكم أن تبادروا فتربطوه بينبوعه الأقدس: "كتاب الله وسنة نبيه" فلتعلموا إخواني أنني إنسان غير معصوم, قد يفرط مني ذنب أو يبدر مني انحراف, فيتشوّه مظهر الحق الذي ربطتموه بي بذلك الذنب أو الانحراف ومثل هذا يحدث مع جميع البشر من السلف والخلف. أقول لمن يكفر بما آمنت به, تمهّل وحاول أن تدرك ما آمنت به فإن لم تقتنع به بل وجدته يخالف كتاب الله وسنة نبيه فلا أطلب منك أن تكفر به فقط بل تنبهني وتحاول أن تعيدني إلى حضيرة الإيمان الصافي ثم تبحث عن ما يوافق كتاب الله وتتمسك به. أقول لبني عمي وأصحابي لا يغرنّكم فكرة تبنّاها سني أو شيعي, يهودي أو نصراني, أوباما أو غيره, القرضاوي أو عدنان ابراهيم, العريفي أو الحويني, لا تؤمنوا بهؤلاء, ولكن ابحثوا عن الحق الذي ستؤمنون به عن اقتناع وعقل ولا تؤمنوا بسبب مودة في الحياة الدنيا فإنها بضع سنوات وتجدون أنفسكم في يوم عظيم قمتم وقد عرضتم للحساب...

أخيرا قد تقول أيها القارئ الكريم ومن أنا كي أخالف العلماء, ومن أنا كي أخالف دولة بأكملها, ومن أنا لأتبنى فكرة ليس على الأرض غيري يتبناها! أقول لك أيها الإنسان بأنك ابن الذي أخبرنا الله عنه في كتابه: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)), أنت يا عزيزي القارئ من الذين قال الله عنهم: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)) إنك من جنس البشر الذين أكرمهم الله وإنها لمنقبة أن تكون من الذين أكرمهم الله وفضلهم على كثير من خلقه! أنت أيها القارئ من قال الله عن خلقته: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم)) أنت أيها الإنسان مخاطب في أعظم كتاب, في القرآن الكريم, كما مرة تجد: (يا أيها الذين آمنوا) و (يا أيها الناس) و (يا أيها الإنسان) فتخيل معي, رب العالمين يخاطبك أنت في كتابه, ويوم القيامة تأتيه فردا وهو بنفسه يقضي لك بالجنة أو النار فيا الله ما أعظم شأنك لو كنت تفقه, ثم تقول من أنا!؟ أقول لك اقرأ القرآن لتعرف من أنت..

Thursday, November 21, 2013

سيهزم الجمع ويولون الدبر



قال الله سبحانه وتعالى: ((سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)) أي سيتفرق شملهم ويغلبون, قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: "أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً" فأخذ أبو بكر رضي اللّه عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول اللّه ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول: "سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر" أخرجه البخاري والنسائي. وروى ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: لما نزلت ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: "سيهزم الجمع ويولون الدبر" فعرفت تأويلها يومئذ " أخرجه ابن أبي حاتم."

كم مرة أيها القارئ الكريم تكون في موقف تخالف فيه أصحابك في رأي ما؟ أظن أن كل منا مر بموقف يكون هو على رأي و جماعة من الناس على رأي آخر. كثير من الذين يخالفون الجماعة من الناس سرعان ما ينضمون إلى الطرف الآخر, فقد قيل: "فإن لم تستطع عليهم فانضم إليهم" وهذه استراتيجية يستخدمها كثير من الناس, بل رأيت ذلك بنفسي. كثير منا يتخلى عن انسانيته (أي اختياره الذي هو مقتنع به) فقط لأن جماعة من الناس يخالفونه! هذا المسكين ينضم إليهم مُكرها وإن كان لا يوافقهم في أفكارهم وأفعالهم, ولكن لا يستطيع أن يتحمل أن تكون جماعة في صف وهو لوحده في الصف المخالف. فهذا الإنسان للأسف يفقد جزءا عظيما من انسانيته ويجحد نعمة عظيمة من نعم الله ألا وهي نعمة الحرية.

على السبيل الشخصي, كثيرا ما أتبنا أفكارا أخالف فيها عائلتي وأصدقائي, بل كل من في قومي ومجتمعي ولكن إن كنت مقتنعا بما أنا عليه بأنه الحق, وبحثت في الآراء المخالفة لرأي ثم وجدتها أنها غير كافية لتقنعني بل باطلة أو غير ذلك فإني لا أتخلى عن إنسانيتي ولا أجحد نعمة الحرية التي رزقني الله! وطبعا لا يتأتى لي ذلك إلا بتوفيق من الله وفضل... لا أتنازل عنها من أجل أن الطرف الآخر هم الأكثرية وأنا وحيد فيما أتبناه ولكن لا أزعم أني لا أفرح أو أستأنس إن وافقني طائفة من الناس على ما أتبناه, فالإنسان في طبعه يحب التوافق والائتلاف ويكره الاختلاف. أكون مع جماعة من الناس في مجلس ما, فلا يتفوهون بشيء ربما احتراما لي أو خوفا أو حياءً الله أعلم! لكن ما إن أغيب عنهم يتكالبون علي كما تداعى القصعة على أكلتها. فمنهم من يسخر ومنهم من يسّفه وفريق منهم يحذرون الآخرين من أفكاري وقليل هم الذين يدعون لي الهداية. وأنا أعلم هذا منهم ولكن لا أمانع بل اشفق عليهم. 

أشفق عليهم لأنهم يذكروني بأفعال الكفار (أعيذهم بالله من الكفر وصفات الكفار) المذكورة في القرآن: ((وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ)) فإن كنت بين جماعة من الناس, ربما ينغزني الواحد منهم والثاني يغمز له, وطبعا إذا انقلبوا إلى أهليهم (إخوانهم وزوجاتهم وأصحابهم) نشروا كلماتي وضحكوا وسخروا مني. وإن رأوني منكب على ما تبنيته وأواصل مشواري وصفوني بالضلال والتأثر بالضالين من الناس وهكذا. أشفق عليهم لأني لا أريد لهم أن يتشبهوا بهؤلاء الذين لا حظ لهم من العلم بل لم يشموا رائحة العلم! بل لا يعرفون معنى العلم! ولا يعرفون آراء الناس من قبلهم ولكن يتبنون آراءً وأفكارا فقط بسبب أن شخصيات ذات شهرة تبنتها, أو لأن طائفة ما تبنتها. هؤلاء وإن كانوا يزعمون بأنهم من البشر إلا أنهم أشبه بالآلات أو الببغاوات التي تقلد ما تسمع! من غير أن تميز إن كانت ما تكرره من الكلمات هي كلمات طيبة أم سيئة... 

قد تتساءل أيها القارئ ولكن كيف تدري أنك على الحق؟ عزيزي القارئ, وإن كنت لا تعرف الحق, فإن كنت من الذين استعانوا بالله وتوكلوا عليه للوصول إلى الحق وبذلت جميع الأسباب من البحث وسؤال أهل العلم والخبرة ثم لم تجد ما يقنع قلبك هنا بل وقر في قلبك أن ما تتبناه هو الحق فتمسك بما أنت عليه بعد طلبك الهداية من الله, فالله لا يخيب من يستهديه ولو لم يجد نتيجة في بداية الأمر! وأيضا قد تتساءل,  كيف تصبر على مخالفة الناس؟ و قد علمت بأن الإنسان اجتماعي بالطبع, ويحب أن يكون مع الناس وأن يوافق أفكارهم ومذاهبهم!؟ أقول نعم هذا طبع الإنسان, لكن من رزقه الله نعمة عشق الحقيقة فلا يرضى بغير الحقيقة أحدا من الخلق, لا الوالدان ولا الأزواج والذرية ولا الإخوان والأصدقاء, ولا الجماعة ولا الأوطان. الحقيقة عنده شيء آخر, شيء فوق هذه الأمور الدنيوية, فوق حظوظ النفس الشهوانية أو الغضبية, شيء لا يمكنني أن أصفه. 

الحقيقة أعشقها لأنها أقرب شيء إلى الحق سبحانه وتعالى, لأن الله هو الحق فأحب أية حقيقة تقربنا منه. أرأيت إن اتصل بك من تعشقه؟ بمجرد أن ترى رقم هاتف معشوقك في شاشة هاتفك لربما طار قلبك من الفرحة! أرأيت هذه الفرحة؟ ضاعفها بليون بليون مرة ثم والله إنها لا تساوي عشر ما يجده طالب الحقيقة من اللذة إن ظفر بالحقيقة! وكيف لا وقد علمت من هو مصدر الحقائق؟ قد تقول الحقيقة مُرة! نعم هي مُرة إن كانت لديك حظوظ نفسية! ولكن إن كان مقصودك هو الله سبحانه وتعالى فالحقيقة تكون أحلى من العسل وأصفى من اللبن وأشد بياضا من الثلج وأعظم بهاءً من الشمس. 

لا تظن أيها القارئ الكريم أن حب الحقيقة هو الشيء الوحيد الذي يصبرني ويصبر أمثالي على مخالفة الناس أجمعين, لا والله ولكن كما قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً)) فالنعمة كلها من الله, فالحمدلله وأسأل الله أن يثبتني على حب الحقيقة وتبنيها ما حييت. ثم إن القرآن فيه تسلية عظيمة للبشر وإن كانوا في ظروف صعبة. فعندما أتبنا فكرة أو رأيا قد وقع في قلبي أنه الحق ولم أجد بعد بحث طويل ما يهز هذه الحقيقة التي وقرت في قلبي, فلا شيء يسليني بعد كل ما أجده من استهزاء وسخرية أو تشويه صورة وأنا وحيد أمام هذا التيار المخالف إلا قول الله سبحانه وتعالى: ((سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)) سيهزم من يسخر منك ثم إن كان من الذين سبقت لهم من الله الحسنى خضع للحقيقة التي جئت بها, وإن لم يرد الله به خيرا سيولي الدبر! هذه سنة الله في خلقه, فهو يظهر الحق ولو بعد حين ولو تبناه ونصر الحق إنسان واحد  ذلك لأن الله هو من (( يُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِل الْبَاطِل)) فاللهم اجعلنا من أهل الحق واجمعنا على الحق وأمتنا على الحق وابعثنا على الحق, آمين...


العلم وطلب الفضائل


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, عزيزي القارئ هل فكرت يوما أن تطلب فضيلة ما؟ أم أنك رضيت بما جبلت عليه واكتفيت؟ فإن كنت الأول فأنت الإنسان, وأما إن كنت الآخر فالحقيقة ربما أشك في إنسانيتك, فالإنسان لا يكون كالآلة. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فتورك عن السعي في طلب الفضائل دليل على تأنيث العزم." أما منفعة العلم في استعمال الفضائل فسأترك لإمام من أئمة الإسلام يبينها وهو الإمام ابن حزم رحمه الله, قال: "منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أنه يعلم حسن الفضائل فيأتيها ولو في الندرة, ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ولو في الندرة, ويسمع الثناء الحسن فيرغب في مثله والثناء الرديء فينفر منه. فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة, ولا يأتي الفضائل ممن لم يتعلم العلم إلا صافي الطبع جدا فاضل التركيب وهذه منزلة خص بها النبيون عليهم الصلاة والسلام, لأن الله تعالى علمهم الخير كله دون أن يتعلموه من الناس.

وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليل جدا. ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم السلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة وفساد العلانية والسريرة شرار الخلق وهذا كثير جدا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى. فمن فضل العلم والزهد في الدنيا أنهما لا يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلهما ومستحقهما ومن نقص علو أحوال الدنيا من المال والصوت أن أكثر ما يقعان في غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما. و قال أيضا: "غاظني أهل الجهل مرتين من عمري إحداهما بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي والثانية بسكوتهم عن الكلام بحضرتي فهم أبدا ساكتون عما ينفعهم ناطقون فيما يضرهم. وسرني أهل العلم مرتين من عمري إحداهما بتعليمي أيام جهلي والثانية بمذاكرتي أيام علمي"

فمن طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها, ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة والبر والصدق وكرم العشيرة والصبر والوفاء والأمانة والحلم وصفاء الضمائر وصحة المودة. ومن طلب الجاه والمال واللذات, لم يساير إلا أمثال الكلاب الكلبة والثعالب الخلبة ولم يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو المعتقد, خبيث الطبيعة. أخيرا, من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه أعاننا الله على الإتساء به بمنه آمين...

Wednesday, November 20, 2013

أصل الخوف




السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... من عادتي أن أتأمل نفسي وصفاتي والمشاعر المختلفة التي تزورني في يومي وانفعالاتي الناتجة عنها وأيضا أحب أن أتأمل في الكون من حولي. أحيانا عندما أفعل ذلك أجد خاطرة في نفسي أو أفكار بعضها أصطادها فأكتبها على شكل مدونة أو قصيدة أو تغريدات والبعض الآخر يختفي... وقد تأملت الخوف أريد أن أكتشف حقيقة الخوف, وكنت قد تأملتها من قبل وتأملت العلم, وقلت في نفسي وكأن الإنسان خلق ليعلم ومن بعد أن يعلم يعمل بما علم... فقلت لعل سبب ذلك أن أصل الخير العلم, وأصل الشر الجهل. وبيان ذلك, إن تأملت سبب خوفك من أي شيء لوجدت أن أصل هذا الخوف هو الجهل. وكأن الخوف حالة طغيان ظلمات الجهل وانطماس نور العلم...

وتفصيل ما سبق, إن الإنسان قد يخاف من السبع, أو يخاف من الجان وغيرهما من مخلوقات الله بسبب أن علمه لم يكمل... فإن الإنسان إن لم يعلم أنه لا شيء يضره إلا بإذن الله, ولا شيء يتحرك في هذا الكون إلا بإذن الله فربما سيطر عليه الخوف و إن زعم بأنه يعلم هذه الحقيقة. أقصد أن الخائف ربما علم المصطلحات والمفاهيم ولكنه جهل حقيقة معاني هذه الكلمات, فإن علم ذلك يقينا وعلم أن من أسماء الله الحسنى الرحيم والحكيم لعلم أن هذا المخلوق الذي أمامه لن يضره, وكيف لمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا أن يضر غيره إلا بإذن الله!؟ فلذلك سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الهجرة لم يخف من الكفار أبدا عندما كان في الغار بل كان يُطمئن أبو بكر رضي الله عنه قائلا: "لا تحزن إن الله معنا" فإن تأملت سبب هذه القوة والثبات لوجدته بسبب العلم. العلم بأن الله لن يضيعه, بأن الله لن يسلط عليه الأعداء, ولعلمه بأن لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه أن يصيبه, فكان مطمئن القلب صلى الله عليه وسلم. 

مثال آخر من واقع الحياة, لو وضعوك في غرفة مغلقة وهي مظلمة قد تخاف, تقول: "قد يخرج لي جني, وقد يكون في الغرفة حية أو مخلوق قد يؤذيني وربما إن وضع أحد يده على ظهرك صرخت من الخوف! أما إن وضعت الطفل الرضيع في نفس الغرفة لن تجده يخاف لأنه يجهل هذه المخاوف يجهل وجود الجني أو معنى العدو أو معنى الإيذاء وغير ذلك فلا يخاف من هذه الأمور. قد تتساءل وتقول إذا هنا الجهل نفع هذا الطفل والعلم أضر بالرجل؟ فكيف تدعي أن أصل الخوف هو الجهل!؟ أقول ليس هناك تناقض, فالرجل خاف لأنه عنده قليل من العلم وكثير من الجهل, عنده قليل من العلم وهو أن الجني مخلوق قد يؤذيه ولكن جهله أعظم من علمه, وإلا لو كان علمه كاملا, لعلم أنه لن يضره شيء إلا بإذن الله, ولو اجتمعت المخلوقات كلها على إيذائه فلن تستطيع أن تؤذيه ولكن لجهله بهذه الحقيقة الكونية يشعر بالخوف. المجاهد كان يجاهد مع رسول الله يتوق إلى الشهادة والمنافق يخاف من الجهاد؟ ما الفرق!؟ الفرق أن المجاهد كان عالما بأن إن استشهد لقي خيرا مما هو فيه الآن, ولكن المنافق كان عنده قليل من العلم, كان عنده علم إن قاتل ربما قتل ولكن جهل حقيقة أعظم وهي: ((قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ)) فلأنه يجهل هذه الحقيقة يمتلئ قلبه خوفا. في عملك, تخشى مديرك لأنه قد يطردك من العمل لأنك تعلم شيئا يسيرا أن لديه سلطة في أن يطردك ولكن لو كان علمك كاملا لم تخشاه قط, لأنك تعلم يقينا بأن الأرزاق بيد الله فلا تخاف هذا المخلوق.

مثال من واقع حياتي, عندما توفي أخي الذي كان بعمري, ظللت بعدها أيام لا أكاد أن أخطو خطوة إلى الأمام إلا وأنا خائف, وكأني أشعر بأن ملك الموت خلفي سيقبض روحي أية لحظة! خائف أن أموت فجأة كما مات أخي بلا سابق انذار وهو في كامل صحته وشبابه. نعم خفت لأني كنت غافلا عن حقيقة الموت وكأنه غير موجود أو كأن عندي عهد عند الله أني سأبقى خالدا في هذه الدنيا وإن لم أكن أصرح بذلك! فعلمت جزءا من الحقيقة وهي أنه لابد لي من الموت... بعدها بفترة اجتزت هذه المرحلة الصعبة بفضل الله فقد منحني الله علما بأن هذه الدنيا قصيرة وأن الموت لا يعني العدم, لا يعني نهاية كل شيء, بل هي مفارقة متاع اعتادت عليه نفسي, وفراق عالم صغير إلى عالم أعظم, مثل الجنين في بطن أمه, وكأن بطن أمه هو العالم وهو يرضى بذلك ولكن عندما يخرج إلى هذا العالم يستحقر عالمه السابق في بطن أمه بل هل هناك أحد من البشر يريد أن يعود اليوم إلى بطن أمه!؟ 

هكذا شيئا فشيئا هذا التعلق بهذه الأمور من حولي ضعف, وما إن ضعف هذا التعلق هان علي الأمر وذهب عني الخوف العظيم الذي كنت أجده في قلبي من الموت وبدأ قلبي يتعلق بالله أكثر, أريد أن أسمع عن الله واليوم الآخر والملائكة وأوصاف الجنة...الخ لا أزعم إني لا أخاف الموت أو لا أحب الدنيا فإن قلت ذلك فأنا كذاب, أحبها وأخاف الموت لكن الحب بنسبة والخوف بنسبة أقل بكثير من السابق ولله الحمد والمنة. كل ذلك بفضل العلم الذي رزقني الله وأقول: ((رب زدني علما)). فتأمل أيها القارئ, عندما علمت جزءا وما أجهله كان أعظم كنت أخاف الموت بل شعور الخوف سيطر على نفسي, ولكن عندما غلب العلم على الجهل في موضوع الموت سهل علي وتحررت من مشاعر الخوف إلى مشاعر أصفها بالراحة والسكينة و الطمأنينة... 

فإن قلت: لم المؤمن يخاف الله!؟ أليس سبب خوفه هو العلم؟ أقول لأن المؤمن مهما عظم إيمانه, ومهما كان عنده من العلم فإن ما يجهله عن الله أعظم بكثير من ما يعلمه. فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله ازداد علمه بأن ما يجهله عن الله أعظم بكثير, فسبحانه ((لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) و ((وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء)) لذلك تجد أشد الناس خوفا من الله هم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام, لأنهم علموا عظمة الله فما خفي عنهم عن الله أكثر بكثير مما علموه. ألا تجد في القرآن أن الله يأمر نبيه بأن يقول: ((وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ)) وفي الحديث عن أم العلاء وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : "طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون . فاشتكى عثمان عندنا فمرضناه ، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ، لقد أكرمك الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي" ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه وهو قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولكن ليكون عبدا شكورا, عبدا علم أنه لا يحصي نعم الله عليه وإن كان رسولا. 

ولهذا تجد ضعاف الإيمان لا يخافون الله كالأنبياء, عندهم علم بأن الله موجود ولكن ليس عندهم علم بأن الله شديد العقاب, ولا يفقهون اليسير من معاني أسمائه العزيز الجبار المتكبر! وكأنهم يجهلون هذه الحقيقة: ((إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)) وكأنها غير موجودة, كما يجهل الرضيع وجود الجني أو المخلوق الذي قد يؤذيه فلا يخاف. ابليس عندما عصى الله سبحانه في موضوع السجود لآدم كان أصل تكبره عن أمر الله هو الجهل, وأصل توبة آدم عليه السلام كان هو العلم, العلم بأن الله يغفر الذنوب, وأن الله عظيم يستحق أن لا يعصى ويعلم خطورة عصيانه فلذلك تاب وأناب إلى ربه فاجتباه ربه وهداه. فالعلم أحبتي في الله أصل كل خير والجهل أصل كل شر ولعل ما ذكرت في هذه المشاركة أحد أسباب تكرار ذكر فضائل العلم في القرآن الكريم والسنة النبوية, هذا والله أعلم وأسأله أن يعلمنا ما جهلنا وينفعنا بما علمنا...

لولا العلم لصار الناس مثل البهائم




السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... هذه مشاركة لبيان فضل العلماء, في المشاركات السابقة ذكرت بعض فضائل العلم, أما في هذه المشاركة ففيها بعض فضائل العلماء. قال سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم, الإمام الحسن رضي الله عنه: "لولا العلم لصار الناس مثل البهائـم" وفي رواية: "لولا العلماء لصار الناس مثل البهائـم" قال الأخ محمد عبدالخالق في مقالته عن فضل العلم: "كلكم يعلم أن كل شيءٍ ماديٍ يشغل حيزاً في الفراغ، له وزن، له طول، له عرض، له ارتفاع، لكن النبات هو شيءٌ ماديٌ يشغل حيِّزاً وينمو، والحيوان شيءٌ ماديٌ يشغل حيزاً وينمو ويتحرك، ولكن الإنسان شيءٌ ماديٌ يشغل حيزاً ويتحرَّك ويدرك، ويفكر، ويعقل، فحينما يُعَطِّل الإنسان عقله، حينما يُلْغي عقله، حينما يحتقر عقله، حينما يستخدم عقله في غير ما خُلِق له هبط إلى مستوى البهائم؛ كتلةٌ من لحمٍ ودم، تبحث عن طعامٍ وشراب، تقتنص اللّذات، تريد أن تأخذ كل شيء بجهلٍ كبير، فالإمام الحسن يقول: " لولا العلم لصار الناس مثل البهائم "، أي أن طلاب العلم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية."

فالإنسان كما قال الغزالي رحمه الله إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنا منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه. الإنسان يجتهد أن يكون عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا يكن الرابع, فإن قلت وما هو الرابع: قلت لك الهمجُ الذي لا خير فيهم... ويروى أن ابن المبارك رحمه الله سئل: "من الناس؟ فقال: العلماء" تأمل إجابته, العلماء هكذا, وكأنهم هم الناس على الحقيقة وغير العلماء كأنهم ليسوا من الناس وكأنهم مخلوقات أخرى غير البشر.

لعل ما سبق مقتبس من الآية الكريمة: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)) فهذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه اللّه، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه ووفقه لاتباع رسله، ((وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس)) أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به، والنور هو القرآن قاله ابن كثير رحمه الله. فالإيمان نتيجة من نتائج العلم, فإن المؤمن لا يؤمن بما يؤمن به إلا بعد أن يعلم أن هذا الذي يؤمن به موجود. أما إن جهل وجوده فكيف سيؤمن به؟ فالإيمان ثمرة من ثمار العلم... أما إن قلنا إن النور فهو القرآن فهو حسبك من العلم, فأي علم أعظم من العلوم المودعة في القرآن الكريم؟ فمن رزق الإيمان وأوتي القرآن فقد أوتي علما عظيما وكان عالما...

قال يحيى بن معاذ رحمه الله: "العلماء أرحم بأمة محمدٍ من آبائهم وأمهاتهم، قالوا: كيف ذلك ؟ العالم أرحم بتلميذه من الأب والأم بابنيهما؟‍! قال: إليكم الجواب، الآباء والأمهات يحفظون أولادهم من نار الدنيا ـ يخافون عليهم المرض، يخافون عليهم الحريق، يخافون عليهم الفقر ـ ولكن العلماء يحفظون أتباعهم من نار الآخرة . تنتهي فضائل الأبوة في الدنيا، لكن فضائل طلب العلم تستمر إلى أبد الآبدين" أختم هذه المشاركة بأبيات منسوبة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
 

ما الفخرُ إلا لأهلِ العِلْم إنَّهـــم على الهدى لمن استهدى أدلاَّءُ

وقَدْرُ كلِّ امرىءٍ ما كان يُحْـسِنُه والجَاهِلُون لأهْل العلم أعَداءُ 

ففُزْ بعلمٍ تَعِشْ حياً به أبــــداً النَّاسَ موتى وأهلُ العِلْمِ أحْياءُ