Monday, January 16, 2012

طائر النجاح


كم مرة تجدون أناساً ينتقدونكم و يستحقرون أعمالكم و يقلّلون من شؤونكم بعد أن بذلتم جهودكم و نجحتم في أعمالكم؟ خاصة إن كان نجاحكم نجاحا كبيرا يعجز عن تحقيق مثله المميزون؟ كثيراً ما نجد أناسا لم نعلم منهم سوى الخير و الإقدام على تقديم الأفضل لأنفسهم و لمن حولهم و بالرغم من ذلك نجد شرذمة يتهمونهم و يتصيدون أخطاءهم. و هذا الإنتقاد يتفاوت من شخص لآخر, فالناجح يتعرض لهذه الإنتقادات لأنه سعى و بذل جهده و طبعا يقال مثل هذا الإنتقاد لمن رضي لنفسه دون القمة و رضي العيش بين الحفر و المستنقعات, فهؤلاء قليلا ما تجد أحدا يطعنهم لأنهم لا يؤبه بهم أساسا, و من كان يعيش في خوف مستمر فلا يحلم أن يصبح حرا. أما الناجحون و المتميزون فإن الحاسدين يحسبون لهم ألف حساب و حساب و يتربصونهم ((فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ))

ما هي ردود أفعالكم إن رأيتم طائرا ضخما من أندر و أجمل ما يكون من الطيور يحلّق في السماء؟ صحيح أننا سنلتفت إلى الطائر فإنه فريد من نوعه لكن هناك عدة ردود أفعال عند مشاهدة هذا الطائر الرائع العجيب و سأذكر خمسة منها. الأول سينظر إلى هذا الطائر نظر المعجب به و يسعى جاهدا بكل السّبل في إعطاء هذا الطائر حرية التحليق و كل ما يحتاجه ليتألق جمالا فوق جمال و إضافة إلى ذلك تجده يسبح الله و يحمده أن خلق طائرا بهذا الجمال. و الثاني تجده ينظر إلى الطائر نظرة المستحقر, فيرى نفسه أنّه خير من الطائر, و إضافة إلى ذلك, يخالف الكل و يدّعي أن الطائر شكله قبيح. و الثالث يترقب ظهور الطائر أمامه فيصوره و ينشر صوره بين الناس, سواء في المواقع الشخصية أو الإجتماعية أو الجرائد...الخ و الرابع هو الذي إن رأى الطائر سعى جاهدا أن يصطاده ربما ليأكله أو ليحبسه في قفص عنده ليسلب من الطائر حرية التحليق في السماء. أما الخامس ينظر إلى الطائر و من ثم يكمل طريقه.

ما ذكرت هو مثال الناجح و الناس من حوله, فالطائر الضخم الجميل النادر هو الناجح, و لابد من الإلتفات إليه فهو فريد من نوعه. الناجح رجل عظمت همّته فلا يرضى أن يعيش أبد الدهر في نفس المستوى, بل يتشوق قلبه أن يتحرّر من الخوف و قيود ضعف الهمة و العزيمة. هذا الناجح كمل عقله فميز بين من له هدف و من ليس له هدف, و اعتبر بقول الحكماء: "إنسان بدون هدف كسفينة بدون دفة كلاهما سوف ينتهي به الأمر على الصخور". فالناجح يبذل كل ما يملك من طاقة و أدوات في تحقيق أهدافه و تجنب المصير المخزي للكثيرين. يتعب قليلاً في ضرب جناحيه ليطير و لكن إن طار وجد لذة و سعادة لا يعلمها إلا الله. أعزائي, اعلموا أن الناجح يتعب قليلا لكن ما إن حقق بعض أهدافه و بدأ بالطيران فلا تسأل عن مدى فرحته, حتى هو نفسه لن يستطيع أن يصف مدى سعادته, و حق له فإنما تكمن السعادة و النجاة في جلب المطلوب و دفع المرهوب. و أما كونه ضخما و جميلا فلأن الناجح غالبا نفعه ليس مقتصر على نفسه إنما يتعدى إلى من حوله فينفع نفسه و ينفع الخلق. لذلك كان من أعظم صفات الناجح أنه يساعد من حوله على تحقيق النجاح و أن يفيدهم من خبراته.

أما الذين رأوا الطائر, فالأول الذي سعى جاهدا بكل السبل في إعطاء الطائر حرية التحليق, فهذا مثله مثل الكرام الذين يسعون بكل ما يملكون في دعم الناجحين و المتميزين و يحفزونهم بشتى الطرق. إن هؤلاء الكرام يحمدون الله و يشكرونه أن سخّر في أمّتهم من يكون ناجحا و ينفع نفسه و مجتمعه و العالم أجمع. ألسنا يا أعزائي نحمد الله على أن جعل في أمّتنا أمثال أبو حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل؟ ألسنا نسعى في نشر علمهم و نذبّ عن أعراضهم؟ أليست دولتنا الكريمة تكرم الناجحين و المتميزين في شتى المجالات مثال شخصية العام الإسلامية, و الشخصية المثالية, و المؤسسات المحفزة في الدولة؟  ليس فقط الدافع في فعلهم هو طبعهم السليم الصحيح, بل أيضا نبوغ العقل فيهم فهم يعلمون أن كل ناجح إنما يقدّم ما يقدّم فنفعه واصل إلى من حوله. فالناجحون لا يفرحون لأنهم سعداء فقط بل يفرحون إن فرح الناس, نعم فكذلك هي صفات الكرام. ثم إن الذين سعوا في دعم الناجحين علموا أن النجاح المتميز و الإنجازات العظيمة بحاجة إلى تعاون مجموعة من الخلق و لهذا آزر بعضهم بعضا و هؤلاء ((كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا))

أما الثاني الذي استحقر الطائر فهذا كمثل أولئك الشرذمة الذين ركبهم ابليس فلعب فيهم لعب الصبيان بالألعاب, فزرع في قلوبهم الكبر و التجبر على خلق الله. يظن كل واحد منهم أنه العبد المصطفى المختار من بين خلق الله, و يظن أنّه على حق دائما و من خالفه على الباطل. لا يرى نجاح كل ناجح نجاحاً و إنما يرى هفوات نفسه و عوراتها هي من علامات النجاح المطلوبة. أعزائي, هل يكون الخنزير مساويا لجمال الخيل؟ لا يكون ذلك و لا يقول ذلك إلا من أصيب بعفن في ذوقه. فكذلك هؤلاء إنما يدّعون قبح الطائر لعفن في عقولهم و قلوبهم و أذواقهم, فيرون الجميل قبيحا و القبيح جميلا, و هذا من شؤم الغرور, فإنك إن كنت مغرورا تُنكر الحس و الحق و من أنكرهما خاب و خسر. هؤلاء الذين يستحقرون هذا الطائر الجميل يستحقرونهم لأنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى عشر ما وصلوا إليه الناجحون, فلا يجدون سبيلا إلى أن يحطوا من أقدارهم إلا بأن يخدعوا أنفسهم و ما يضرون إلا أنفسهم و ما يشعرون لكبر و غرور في صدورهم. كما أن كريم الأصل كالغصن, كلما ازداد من خير تواضع و انحنى فهكذا من كان خبيث الأصل, كالنار كلما اشتدت ارتفعت و تكبرت و إمامهم في ذلك هو إبليس الذي أبلس من رحمة الله. أقول للناجحين إن قابلوا هذه الفئة أن لا يحزنوا و يتأثروا بتكبّر هؤلاء و استحقارهم, فكما أنهم يرون الطائر الضخم في السماء صغيرا حقيرا, فكذلك هذا الطائر الضخم الذي يحلّق في السماء يرى هؤلاء المتكبرين كأمثال الذر. وبما أننا أُمرنا بأن نُذكر غيرنا فأنا أذكر من بقي له ذرة إيمان أن يعتبر بكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"

أما الثالث فهو الذي رضي أن يكون نشرة إخبارية عن ما يحقّقه الناجحون, فلم يرتقي إلى درجتهم ولم يحدث نفسه ببذل مثل ما بذلوا كي يحققوا النجاح بل اكتفوا بنشر نجاح من نجح. لعل خير هؤلاء أقرب من شرهم, لكن العاقل الذي يدرك قيمة الحياة الدنيا لم يكن ليؤثر مثل هذا العمل على أن يقدم شيئا لنفسه و لمن حوله. أعزائي, كم هو جميل أن يكون في قلب الإنسان طمع في التماس رضى الله سبحانه و تعالى, و أن يكون في هذه الدنيا حديثا جميل الذكر, يذكره الناس من بعد نفاد العمر, فالدنيا عبارة عن أحاديث ليس لها حصر و الثناء الحسن هو عمر الإنسان الثاني في الدهر و إن كان في القبر. إن الذي ينهاه عقله عن إضاعة الأوقات في نشر كل ما قيل و قال عن الناجح, لغرس اليوم شجرة لينام في ظلها غدا, و حتى إن لم تثمر الشجرة كما أثمرت للناجحين غيره فهو أفضل من لا شيء. أُذكّر من كان من هذه الفئة أن أعمال المرء هي مقياس, فبأعمال المرء و صرفه هممه في أمر ما نستطيع أن نحدد شخصية المرء.

أما الرابع و هو الذي يصطاد الطائر فهو الذي يغري الناجحين أن يعملوا له و أن تكون أعمالهم تابعة لهواه, فإن لم تكن أعمالهم تابعة لهواه حبسه في قفص. ذلك لأنه لا يريد أن يستفيد هو من الناجح و لا يريد أحدا من خلق الله أن يستفيد من الناجح و هذا من أعظم الظلم. فمن أعظم ظلما ممن ضلّ و يريد أن يضلّ غيره, فيمنع أن يصل الخير إلى غيره بل يطمع أن يكون الخير لنفسه بل أحيانا يرضى أن يضر نفسه و أن لا يستفيد أحد غيره ((وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) و بعض هؤلاء يسرقون عمل الناجح و ينسبونها إلى أنفسهم بغير أن ينسبوا النجاح لمستحقيها, فهؤلاء مثال الذي يصطاد الطائر ليأكله.  و الرابع مذموم في كل أحواله, لأنه في غم مستمر لا ينقطع, يحاول ليل نهار أن يوقع الناجح و هذه مصيبة لا يؤجر عليها بل يؤثم و يذم ذكره في العالمين. ما أعظم خسارته! هو في غمّ و تعب يلحق الطائر ليصطاده و الطائر يطير بسعادة في السماء, فشتّان بين الحالتين. لا يرضى بمثل عمل هذا الرابع (الذي يسعى لاصطياد الناجح) إلا خسيس النفس و لا يوافقه على فعله إلا من تساوى معه في خسة النفس. لعلّ أعظم عقوبة يتعرض لها هؤلاء هي سخط الله و الملائكة و الناس أجمعين و بذلك يغلق عنه أبواب الموصلة إلى توفيق الرحمن و تفتح له أبواب العار و الخذلان  المؤدية إلى رضا الشيطان.

أما الخامس فهو الذي أشغله أمر نفسه عن أمر الناس و رأى أن في السلامة من مخالطة الخلق فوائد كثيرة. سمع بنجاح الناجحين فلم يصرفه ذلك عما هو عليه و واصل طريقه و علم من نفسه أن عزّه في عزلته. قد علم أنه لا يقوى على إعانة الطائر و تيسير السبل للإستمرار في نجاحه, علم أنه ليس أعلى قدرا من هذا الناجح و رفض أن يغرق نفسه الكريمة في ظلمات الجهل فيصطاد الناجح و يحرم الآخرين من الانتفاع منه. كان رافضا لإضاعة وقته بالتصوير و نشر الأخبار بل قرر أن يعتزلهم جميعا و يكف شره عن الناس. فباعتزاله يحفظ لسانه من اللغط و يحفظ عقله من الإختلاط مع هموم الناس و غمومهم. يغض الطرف عن هفوات الناجحين و يحفظ سمعه عن سماع قبيح أقوال الصيادين و المتكبرين. يحفظ نفسه من العجلة في رمي الناس بالإتهامات و الأباطيل, فيلج بسبب ذلك في بحور الفتن بلا قارب. و ربما اعتزل الناس ليبعد نفسه عن مواطن الرياء أو لإخلاص قلبه لله سبحانه و تعالى, و لعله يربي نفسه تربية ذاتية بعيدة عن ما ينشره مصوّر الطائر و لعلّ هناك أسباب أخرى. كما قال أحدهم: "العزلة على مراتب، وتختلف باختلاف أحوال الناس، من الناس من يكون عنده قدرة علمية وقدرة شخصية وبيانية، ويستطيع أن يصارع الباطل، ويقاوم الباطل ويؤثر، وآخر دون ذلك." فالخامس و هو الأخير علم أن الدواء لنفسه هي العزلة و لم يصل في العزلة إلى درجة أن يحبس نفسه من أن يستنشق الهواء أو ينظر إلى الطائر, و لم يخالط لدرجة أن يجري عليه الحمقى و المغفلين.

يا أيها الناجحون, قد علمتم مثلكم و مثل من حولكم, فاختاروا لأنفسكم ما تريدون. لا تنزعجوا إن وجدتم من يتّهم نواياكم, أو يسيء إليكم حسدا من أنفسهم. لا تضعفوا و تذكروا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: "المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف" و اعلموا أن هذه هي سنة الله في خلقه, و من تدبر قول الله سبحانه و تعالى في سورة الأنعام لارتاح و انشرح صدره: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) )). إخواني و أخواتي, كم أتمنى أن يأتي يوم نمدح فيه الناجح و نشيد بأفعاله علنا, و إن أخطأ في أمر ما فلا نحطّم همته و نضعف عزيمته بل نعاتبه سرا. و أقول لمن فاته قطار النجاح مثلي, فليمضي و يمشي بحسب استطاعته, فالوصول متأخر خير من عدم الوصول. أخيرا, تذكروا أنه ليست العبرة في عدد الإنجازات بل في قيمتها, و أول الشجرة نواة فبادروا بزرع النواة.


3 comments:

  1. قسمت الناس الى خمسة اقسام, يعني<< قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ>> في اخر المقالة كتبت "و أقول لمن فاته قطار النجاح مثلي" هنا ذكرتني بصنف اخر من الناس وهم الذين يشهد لهم بنجاحهم ولكن هم بانفسهم لا يعترفون بما انجزو و ذلك لا يكون من باب التواظع...

    ReplyDelete
  2. شكرا لك على التعليق الطيب و بارك الله فيك على النصيحة, الحقيقة لم أقلها من باب التواضع, فهذه الأساليب لاثبات التواضع لا اعترف بها, ولكني قلت الحقيقة لأن النجاح بالنسبة لي أكثر من ما انا عليه, فشكرا لك عزيزي و ربي يوفقك ان شاء الله

    ReplyDelete
  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    كلمات جداً جميله ، و الأجمل تصويرك للمعنى الذي تود أن تصل إليه
    بالطائر فالفكرة كانت واضحه بحجم ما كانت مؤثرة جداً ،

    ما أود التركيز عليه هو الجملة الأخيرة من المقال
    من وجهة نظري الشخصيه أن النجاح لا يقتصر على التميز في الأهداف
    ستيف جوبز على سبيل المثال تميز بنجاحه بجلب شي لم يسبقه غيره للبشرية
    لكن أي إنسان يستطيع أن يكون ناجحا و إن لم يتميز ، بأن يكون ناجحاً بأخلاقه و معاملاته وأخلاقه
    و وظيفته ، و تطويره لنفسه و من تفكيره و أن يكون إنسان متجدد ، لديه هدف و رؤيه و رساله
    و غيره من الأمور و إتقان العمل كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم بحد ذاته نجاح و أمر محبب للرب ، النجاح يعني الإستمرارية ، كثيرون من كانوا متفوقين
    في مراحلهم الدراسيه ، ومن بعد التخرج توقف كل شي بالنسبة لهم .. هؤلاء بالنسبة لي ليسوا ناجحين و إن كانوا
    في السابق يصنفون على هذا النحو ، لذلك لا أحد متأخر على النجاح أو التميز و حتى الإبتكار
    ما دامت الروح موجوده و العقل سليم أي شخص يستطيع أي ينجح و يتميز
    و تكثر الأمثلة حول أشخاص معاقين لا يتحرك فيهم شيء إلا القليل من الحواس وبالرغم من ذلك
    قدموا للبشرية ما عجز عنه الأصحاء .. فالعمر ليس عائقاً للإنسان ، وشخصيا أرى فيك إنسان ناجح
    و أسأل الله لك التوفيق والسداد

    كل الشكر على مقالاتك الهادفة التي قرأت بعضا منها لكن أعجز عن الرد أحياتاً
    وبارك الله في علمك و مسعاك

    الشمس النيادي

    ReplyDelete